في أروقة المستشفيات التي لم تسلم من القصف، وبين أزيز الطائرات وضجيج المسعفين، كانت ممرضات غزة يواصلن أداء واجبهن بصمت وثبات. لم يكن الطريق إلى العمل آمنًا، ولا المرافق مهيّأة، ومع ذلك كنّ هناك دائمًا. في كل زاوية من مستشفى أو خيمة طبية، تجد ممرضة تمسح عرقها، وأخرى تطمئن جريحًا بينما عقلها مع عائلتها، وثالثة تمسح دموعها من هول ما ترى. عندهن لا مجال للحزن ولا للانهيار، فالمصاب جلل، أعظم من أن يُحتمل، والواجب المهني لا ينتظر.
هنا نستضيف ممرضات يروين أصعب لحظات الحرب: عن النزوح والجوع، عن الألم الذي لا يُوصف، وعن قهر الرجال بين أروقة المشافي الذي عايشنه، عن تجربة أن تكوني ممرضة في حرب إبادة جماعية لم تُبق شيئًا على حاله، حرب اختبرت إنسانيتهن لكنها لم تنل من إرادتهن.
المهنة المقدسة

وقفت الحكيمة إليانا أبو ركبة مذهولة أمام المشهد، تنظر بصدمة إلى أعداد المصابين الذين توافدوا إلى المستشفى وهي على رأس عملها. كان القرار صعبًا للغاية: هل تبقى إلى جانب المرضى الذين ترعاهم أصلًا، أم تهرع لمساعدة الجرحى الجدد؟ لكن رائحة الدم التي ملأت المكان، وشدة الصراخ، جمدتاها في مكانها للحظات، قبل أن يدفعها ارتفاع الصرخات ونداءات المسعفين إلى التحرك سريعًا، تركض لأداء واجبها وسط مشهد يفوق كل احتمال.
تقول: "خلال عامين من العمل كممرضة واجهت كثيرًا من المواقف المؤثرة التي لا أتجاوزها حتى الآن، لكن الاستسلام لم يكن خيارًا. كنت أشعر بالمسؤولية تجاه المصابين في ظل الأعداد الهائلة التي تحتاج لمئات من الأطباء والممرضين."
إليانا، التي تخرجت من تخصص التمريض قبل الحرب بثلاثة أشهر فقط، تنقلت للعمل بين المشافي خلال الحرب. بدأت في كمال عدوان، وبقيت حتى كانت في صفوف آخر النازحين من المشفى بعد محاصرته، ثم تنقلت بعدها بين مشافي القطاع، لتُحاصر أكثر من مرة في أماكن عملها، ومع ذلك كانت تقوّي نفسها بنفسها.
اقرأ أيضًا: مصرية وفلسطيني: عن فراق الحبيب حيًا وميتًا
تضيف بصوتٍ منهك: "كنت أشعر بالإرهاق والحزن وأنا أشاهد المرضى الذين يفوق عددهم 60 جريحًا، ونحن أربعة ممرضين نعتني بهم لمدة 24 ساعة. لم يكن في أيدينا التخفيف من آلامهم في ظل غياب المسكنات، وأكثر ما كان يبكيني المصابون الذين فقدوا أطرافهم، والأطفال أيضًا."
في إحدى المرات، وقفت إليانا أمام مصاب ظهرت الديدان على جروحه، فتراجعت خطوة للوراء من شدة الصدمة، ثم تمعنت في الجرح المفتوح قائلة: "والله لو قيل لي سابقًا إنني سأرى مثل هذا المشهد وأقف عاجزة لما صدقت... ما يحدث جنون. يمنعون عنا الشاش المعقم والمعدات الطبية، نحن نُقتل مرات عديدة في اللحظة نفسها."
الأهل بالمرصاد

تجمدت الدموع في عيني هدى سويلم وهي تقف حائرة بين قرار العمل في سلك التمريض وسط الخطر، أو الرضوخ لضغوط عائلتها التي ازدادت خوفًا عليها كونها الابنة الوحيدة. وكلما حوصِر المشفى الذي تعمل به، كانت ترتجف خشية أن تُمنع من مواصلة مهنتها النبيلة.
تقول الحكيمة، التي تخرجت عام 2022 وتنقلت بين المشافي كمتطوعة: "بينما كنت أتعرض للضغط والخوف من الاستهداف، كانت وسيلتي التدوين؛ أكتب أو أرسم. يضايقني منظر الأطفال ذوي الأطراف المبتورة، والبنات المشوهة وجوههن، والأرامل اللواتي تُركن يقاسين الحياة مع أطفالهن."
في إحدى نوبات عملها، فوجئت بقصف مفاجئ استهدف خيمة قريبة رغم أن الهدنة كانت سارية. تسلل الذعر إلى قلبها وارتجفت يداها من الخوف، وفي لحظة خاطفة، مرّت في ذهنها صور زملائها واحدًا تلو الآخر، وجوه أنهكها التعب لكنها ما زالت تقاوم
ومن أشد المواقف التي حفرت في ذاكرتها رؤيتها لطفلة صغيرة فقدت أهلها تحت الركام، وقد بُترت يداها وقدماها، فبدت كزهرة اقتُلعت من جذورها قبل أن تزهر. منذ تلك اللحظة، لم تعرف هدى طعم النوم، فالكوابيس تلاحقها، وصدى بكاء الطفلة لا يفارق أذنيها، يذكرها بأن الحرب لا تقتل الأجساد فحسب، بل تترك أرواحًا معلقة بين الحياة والموت.
في إحدى نوبات عملها، فوجئت بقصف مفاجئ استهدف خيمة قريبة رغم أن الهدنة كانت سارية. تسلل الذعر إلى قلبها وارتجفت يداها من الخوف، وفي لحظة خاطفة، مرّت في ذهنها صور زملائها واحدًا تلو الآخر، وجوه أنهكها التعب لكنها ما زالت تقاوم. واصلت هدى عملها بإخلاص رغم الإرهاق الذي بدأ يترك أثره على صحتها، ولم تتراجع لحظة واحدة. كانت تعمل بلا أجر، فكل ما أرادته هو مداواة الجرحى والتخفيف عن قلوبهم المنهكة.
لم تسقط دمعة

بينما كانت الممرضة منار حجازي تداوي جراح المصابين وتتنقل بينهم بخطوات مثقلة بالهم، دوّى صوت انفجار قريب من مشفى كمال عدوان في بيت لاهيا. توقفت لثوانٍ وقد جمدها الذهول، ثم تمالكت نفسها وعادت إلى عملها بصمت شاحب. بعد لحظات وصلها الخبر القاسي: الاستهداف كان في الشارع المقابل للمشفى، وقد استُشهد فيه والدها وشقيقها.
لم تسقط من عينيها دمعة واحدة؛ كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل. واصلت العمل بوجه خال من التعبير، وكأنها تخيط جراح الآخرين لتغلق على جرحها هي، جرح لا يُرى لكنه ينزف بصمت.
عملت منار في كمال عدوان والشفاء الطبي وعدة عيادات أخرى، وعند نزوحها الأخير من الشمال إلى المحافظة الوسطى توقفت عن العمل. تقول: "كان الألم الأقسى في حياتي خبر استشهاد شقيقي معاذ ووالدي معًا، فكان المصاب جللًا. واصلت العمل إيمانًا بما أقدمه، ثم استُشهد شقيقي الثاني محمد، لأشعر أنني منهكة جدًا، فكيف للمرء أن يتحمل كل هذه الصدمات؟".
اقرأ أيضًا: دانية المدهون: مذكرات ناجية وحيدة
كانت منار مكلومة من كل ناحية في هذه الحرب، تستنزفها الأيام كما تستنزف النيران المدينة. كانت تتابع حالة طفلة في قسم الأطفال بالمشفى، تزورها كل يوم لتقدم علاجها، لكن حين دخلت غرفتها صباحًا فوجئت بأنها فارقت الحياة. تجمد قلبها، وعيناها تلاحقان ملامح الطفلة الصغيرة التي خمدت إلى الأبد.
وفي الوقت نفسه، كانت أفكارها معلقة بـ ـسيلا، الطفلة التي تصارع الكبد الوبائي، وبـ ـمحمد الصغير الذي يعاني من نوبات التشنج. كانت تحزن لأجل كل طفل منهم كما لو كانت أمّهم جميعًا، تحمل وجعهم في قلبها المثقل بالعجز. وبينما كانت غارقة في أفكارها، دوّى انفجار عنيف، وتساقطت الشظايا من كل اتجاه على المشفى. هرعت منار تزحف نحو غرفة التمريض لتحتمي بها مع زملائها، خوفًا من أن تطالهم يد الموت التي لم تفرق يومًا بين مريض وطبيب.

