بنفسج

من حكايا الطفولة: أنا وأمي وإبريق الشاي

الثلاثاء 14 يوليو

تأخذني لحظة تأمل بعيدة جدًا، تجوب بي الماضي والمستقبل والحاضر كمن يشاهد شريطًا زمنيًا. أتذكر أشياء كثيرة، وأتذكر كل ما كان له أثرٌ على حياتي وكل من كانت له لمسة أضافت على شخصيتي، فتدافعت إلى ذهني ذكريات مازالت ترافقني منذ الصغر. ضحكت على بعضها وذرفت الدمع على بعضٍ منها. من بينها موقفٌ لا أنساه ما حييت، أضحك كلما مرَّ بخاطري.

عندما كنتُ في السادسة وفي ليال الشتاء، عندما كانت أمي تطلب مني أحيانًا أن أقوم بتعبئة إبريق الشاي بالماء لتصنع هي الشاي. كنت أحمل الإبريق وأتوجه به نحو صنبور المياه أعبئه، وكعادة من لا خبرة له في صنع الشاي، كنت أسألها أيكفي هذا؟ وبرغم بعدها بالمسافة عني، إلا أنها كانت تعلم لأي مستوى وصل الماء في الإبريق دون أن تنظر إليه عن قرب، فكانت تقول أحيانًا أجل يكفي، وأحيانًا أخرى زيدي عليه قليلًا بعد.

بعد تفكير عميق لأيام وليالٍ قررت في نفسي أن أمي ترى ما خلف الأشياء، تمامًا كسوبرمان حين يرى ما خلف الحائط، ولذلك كانت تعرف مقدار المياه في الإبريق.

 كنتُ أنبهرُ حينها بأمي، وأسألها كيف عرفتِ ذلك دون أن تنظري عن قرب؟ فكانت تضحك وتصمت. وكنت أنا حينها أسرح في خيالاتي حتى اهتديت مرةً لتفسير مضحك، كنت على اقتناع تام به حينها. بعد تفكير عميق لأيام وليالٍ قررت في نفسي أن أمي ترى ما خلف الأشياء، تمامًا كسوبرمان حين يرى ما خلف الحائط، ولذلك كانت تعرف مقدار المياه في الإبريق.

 ثم بقيت أراقب هذه الظاهرة الغريبة في نظري، وأصبحت أتوق في كل مرة لتعبئة إبريق الشاي، أحرص أن أفعل أنا ذلك دون أخي. حتى صارحتُ أمي في يومٍ من الأيام بما أتخيل، فما كان من أمي إلا أن انفجرت ضاحكةً وربتت على رأسي وأكملت عملها وهي تحاول إخفاء ضحكتها. أما أنا فاستغربت هذا، ولم أغير تلك الفكرة، بل ازددت اقتناعًا بها، حتى أنني حاولت مرةً اختبار قدرة أمي في النظر خلال الأشياء. طبعًا لم تنجح أمي في ذلك الاختبار. فانتكستُ قليلًا وبدا ذلك غير منطقيٍ بالنسبة لي!

 تشوش رأسي قليلًا وانتظرت حتى المساء في موعد شرب الشاي. فنهضت قبل أمي لملئ الإبريق بالماء، وقد قررت أن أعلم ما الذي سيحصل. كالعادة، سألت أمي عن المقدار إن كان كافيًا فنظرت أمي من بعيد، ثم أمعنت النظر وقالت لي أجل يكفي. عندها استُفِز دماغي، إذ كيف يحصل هذا؟! أتنفرد مهارتها في رؤية الماء داخل إبريق الشاي فقط؟! أم أن هناك شيئًا لم أدركه بعد؟!

قالت لي: أنا فقط أقدّر مقدار الماء الموجود من طريقة حملك للإبريق، فلو كان ثقيلًا لبدا هذا على يديك الصغيرتين ولقلت لك أن تنقصي من مقدار الماء، ولو كان الماء قليلًا ستحملينه بخفة وسأعلم، الأمر يعتمد على دقة الملاحظة فقط.

هنا قررت أن أضع حدًا لذلك الشيء الغريب، فتوجهت تلقاء أمي أسألها بوضوح: كيف ترين مقدار الماء في الإبريق من بعيد؟! هنا ابتسمت أمي وقررت أن تجيبني وتوضح لي الأمر كي لا أسرح في تخيلاتي أكثر، قالت لي: أنا فقط أقدّر مقدار الماء الموجود من طريقة حملك للإبريق، فلو كان ثقيلًا لبدا هذا على يديك الصغيرتين ولقلت لك أن تنقصي من مقدار الماء، ولو كان الماء قليلًا ستحملينه بخفة وسأعلم، الأمر يعتمد على دقة الملاحظة فقط.

حينها ذهلتُ بتفسير أمي، وتوضح الكثير في ذهني وضحكت من اعتقادي بأن أمي كسوبرمان حينها. نعم، كانت أمي وما زالت تفسح لنا المجال لاكتشاف ماهية الأشياء ونحن تحت ناظريها. فلا تتدخل وتفسد علينا متعة اكتشاف الحقيقة، ولا تبتعد كثيرًا لتتركنا نسبح في خيالات لا أساس لها من الصحة، فنضل.

وحين ترى الوقت مناسبًا تخبرنا بالصواب إن لم نهتد إليه. وهكذا كبرت وأنا أكتشف الأشياء بعد رحلات من البحث. وانعكس هذا على طريقة تفكيري التي توصف غالبًا بالمنطقية، والتي لم أكن لأكتسبها لولا حرص أمي على جعلنا نخوض تجارب البحث والاكتشاف منذ الصغر، فكل ما كنا نستغربه كنا نبحث عنه ونفهمه وندرك عمقه بهدوء. طريقة أمي تلك أكسبتنا ثقة بأنفسنا، جعلتنا لا نخجل من البوح بأفكارنا، وأن نسير نحو معرفة الحقيقة بثقة ودون خوف.

إن وجود أمٍّ تقدر أهمية تنمية قدرات أطفالها العقلية والاستكشافية، لهو أمر جليل عظيم لا توفى الأمهات حقه مهما فعلنا. علمتنا أمي ألا يتلاعب أحدٌ بعقولنا، ألا نأخذ كلَّ ما نسمع بالتسليم، أن نفكر ونوزن ونمنطق ما نسمع، ثم نسأل ونسمع ونسعى ونتحرى حتى نعلم اليقين. الآن بعد أن كبرتُ وتجاوزتُ العشرين عامًا، بدأتُ أدركُ حقًا ما صنعته أمي داخلنا، نعم لم أدرك ذلك من قبل. أمهاتنا يا سادة مهندساتٌ بشرية تصنع فينا ما تصنع وتودع فينا ما تودع من خبراتٍ وتجاربٍ وحنانٍ وعاطفة.

أدركت الآن أننا نحن النساء جيشُ مجيش؛ عنوان قوته وأسواره المنيعة، أدركت أننا قلب قوته وصانعات ثورته وحافظات ثباته وعزته، فإن خاضوا غمار الجهاد كنا معهم بقلوبنا ودعمنا وتأييدنا ودعواتنا، كصمام الأمان نغذي جذوة ناره، وإن حال بيننا الظالمون والقضبان تزودنا بالصبر والثبات، فيستمد رجالنا ثباتهم من قوة وقفتنا من حفظنا لعهدهم، من إحساسهم أنهم تركوا بين أيدينا أمانتهم نعدّهم على منهاج دعوتهم ونغذّي قلوبهم بها. فنحن استمرار شعلة الفكرة. تلك الفكرة التي نحولها لعقيدة في صدور أطفالنا، فلا بقاء لظالم ولا دوام لظلم ولا نصر إلا لله.

كم أدركت أننا حارسات السور من الثغور، أينما وجدنا ضعفًا سددنا ثغرته وقوينا سوره. فلئن انشغل رجالنا بعظام المهمات لا نقل عنهم في حراسة الثغور، فلا تسرب وتسلل لأشياء صغيرة قد تدمر الحصن إن تراكمت، ولا تسلل لأشياء تحاول أن تقتات على قلوب أطفالنا وتتملكهم، كم أدركت أننا نربي داخل أطفالنا تلك القوة الرهيبة ألا خشية من ظالم وألا عزة إلا بالله.

ليس تكبُّرًا بل اعترافٌ بأن دورنا لا يقل عن دور الرجال في هذه الأمة، فإن كان الرجل ربّان السفينة فنحن أشرعته، ولا يسير مركب دون أشرعةٍ إلا بالتجذيف، ونهاية التجذيف تعبٌ وإرهاق قد يودي بقرصنة السفينة أحيانًا. وفي النهاية أبرق بتحيةٍ ملؤها عزٌّ وفخار لأمي، ولكل أم أو أخت أو زوجة أو مربية وأقول لهن، أنتن ثباتنا وتيجان رؤوسنا.