بنفسج

لأنه الله..

الأربعاء 10 يونيو

لو سُئلتُ في صغَري عن سبب حبّي لله لكانت إجابتي: لأنّهُ الله. دونَ أي سبب آخر، وببساطة. أودُّ لو أستطيع أن أكتبَ في جملتي التالية جواباً يختلف كثيراً عن هذا الجواب؛ لأثبتَ عزوفي عن رأيي السّابق إلى ما هو أحكمُ وأبلغ، لكنّني بعدَ أن كانت إجابتي لسنواتٍ تختلف وتتبدّل، رجعتُ إلى أوّل إجابةٍ لي، أحبّهُ لأنّه الله.

كبُرنا جميعاً ونحنً في شوقٍ وتوقٍ مستمرِّ لشيءٍ لا نعرفه، ولكن نشعر أنّنا سنكون سعداء به أو معه، ثمّ التقى الواحد منّا أشخاصاً ظنّ أنهم المنشودون وأخذ يصبّ شوقه وتوقه فيهم، أو زارَ أماكناً رآها محبوباً طال انتظاره، أو حتى تذوَق أكلة وراح يكتب فيها الغزل، لكنّنا بعدَ ذلك نجدُ أنفسنا راغبين بوصلٍ أبقى، بوصلٍ شعرناه منذ الأزل، ونريده إلى الأبد.

ولأنَّ كل موصولٍ بالضّرورة مقطوع، مهما أينع وأثمر في وصله، فإنّنا نوجّه كل حزننا الناتج من معرفة هذه الحقيقة نحو البحث عن المحبوب الحاضر دائماً، الّذي لا يغيب.

ولأنّه الله، فقد جعلَ-عزّ وجلّ- نفسه حاضراً في قلب المؤمن، منيراً فؤاد المحبّ له، دونَ خوفٍ من رحيلٍ أو انقطاع وصل، لأنّه من أحبَّ الله فقد ظفِرَ بمحبوبٍ لا يدير له ظهراً ولا يكسر له خاطراً، حاشاه جلّ جلاله.

الّذي يحبّ الله، ويجدُ في حبّه وعاءاً يصبّ فيه وجده وشوقه فقد وصلَ خير وصولٍ بعدَ طولِ سعي، وحظيَ بأنسِ في خلوته وجلوته، وصارَ لديه نورٌ أينما أدار وجهه، ولم يقدِر بعدَها على نسيان محبوبه لحظةً واحدة، لا يبتعدُ عنه في حزنٍ ولا فرحٍ ولا ضياعٍ ولا اتّزان.

يقولُ الحلّاج-رحمَه الله- وهو أحد أعلام التصوّف:

"واللهِ ما طلعت شمسٌ ولا غرُبت    إلّا وحبّكَ مقرونٌ بأنفاسي

ولا خلوتُ إلى قومٍ أحدّثهم    إلّا وأنتَ حديثي بينَ جلّاسي

ولا ذكرتكَ محزوناً ولا فرِحاً     إلّا وأنتَ بقلبي بينَ وسواسي"

وهذه الكلمات إنّما هي حسنُ تعبيرِ عن حبٍّ سكنَ صدرَ صاحبه وملأ فؤاده ففاض، وكانَ فيضانه شكلاً آخر من أشكال الهيام والهوى. الذي يحبّ الله حبّاً حقّاً يجعله مقيماً في قلبه، ويتّحد معه، حتى يصيرُ يجدُ الله فيه، فيصيرُ يمشي وفي داخله كونٌ كامل، ومن كانَ الله في قلبه لا يّهزَمُ أبداً، فتجدُ الحبّ يطبّقُ معناه بشكلٍ حقيقيّ، أي يرفعُ ويدفعُ عنك الأذى ويمنحك القوّة والصبر والعينَ الّتي ترى الجمال. يمنحكَ الوجود.

اعلَم-أنار الله فؤادك- أنَّ بذلَ الحبِّ الكاملِ لغير الله مشقّة وبلاء، وأنَّ طول الإنتظار لغيرِه عملٌ مندثر، وأنَّ الحزنَ لانقطاع وصلٍ سواه إنّما هوَ إضاعة لأيامك وساعاتك بلا ما يستحقّ، وأنَّه سبحانه هو المستحِق، وأنَّ كلّ شعورٍ تقدّمه لغيره يجبَ أن ترفقه باحتمالية اختفاءه أو ذبوله، وأنَّ كلّ وصلٍ غيره مقطوع ولو تعدّدت أسباب انقطاعه، وأن كلَّ فراقٍ حاصل إلّا لمن أحبَّ الله واقتربَ منه فلا يفارقه نوره أبداً، وأنّه هوَ أنقى وأبقى.

تباركَ الله، أشرقت الأنوار باسمِه، وأنيرَت الأفئدة بذكره، وبوركَت القلوب بوجوده. تبارك الله، أنِسنا بذكره جلّ جلاله وتعطّرنا بلفظِ اسمه. تباركَ الله، المحبوب الحاضر دائماً، أصلُ الخَير ومنبعُ المحبّة.