بنفسج

ذكرى واحتفاء: حينما نقش القرآن قلبها

السبت 20 يونيو

وقد كانت في صغرها منذ عهد ليس ببعيد تتوق نفسها لحفظه، تتطلع إلى حافظي كتاب الله فتخاله مقامًا بعيد المنال، لم تتخيل أنها ستكون يومًا في صفوفهم وستتوج بوقارهم، إلى أن عانق مسمعها، وطرق شغاف قلبَها في ساعة من نهار، ذلك الحديث الذي يروي حال حامل القرآن، يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين يوم القيامة لا يُقَوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كسينا هذا؟ فيُقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها).

فما أشد وقعه في قلبها، يورثها عزمًا لم يفتر طيلة سيرها في طريق حفظ القرآن العظيم، تباشر مسرعة إليه، وكأن ذاك المستحيل يصير ممكنًا، فتمر بضعة أيام لتتم حفظ سورة يس، ثم الحديد فالكهف فمريم والسورة تعدوها السورة، والحماس يزداد، والاقتراب لتلك النقطة يتراءى نوره ولا يخبو، ويتنامى الحلم أكثر، فكأن كل سورة فيه تدعوها لحفظ ما يليها من السور، لكأنك في حديقة وارفة الظلال، تحار حروف البيان فيها.

ولسان الحال هل من مزيد؟ فمع ضيق الوقت، وكثرة انشغالها بالدراسة لأغلب وقتها إلا أن مدافعة حروفه وعبق اللحظات في أكناف السطور وتحت ظلال الآيات كان يذيب متاعب يومها، فيورق عزم من جديد ويتوثب عزم آخر، فيطرح بركة ممتدة في وقتها، في أجل تفاصيل حياتها، كان طيف تلك اللحظة يجوب أمام ناظريها ويتردد صداه على سمعها، في كل مرة تفتح فيها القرآن العظيم تزداد نبضات قلبها حدة ولهفًا شوقا لتلك اللحظة لحظة أن تحفظ القرآن، إذ بربك كيف يكون حال القلب حينئذ.

| من ذاق عرف

كانت في صغرها منذ عهد ليس ببعيد تتوق نفسها لحفظه، تتطلع إلى حافظي كتاب الله فتخاله مقامًا بعيد المنال، لم تتخيل أنها ستكون يومًا في صفوفهم وستتوج بوقارهم. فما أشد وقعه في قلبها، يورثها عزمًا لم يفتر طيلة سيرها في طريق حفظ القرآن العظيم، تباشر مسرعة إليه، وكأن ذاك المستحيل يصير ممكنًا.
 
تفتحه اليوم، فتتذكر خطوط الرصاص تحت آياته تذكرها بشغف اللحظات المنقوشة على جدران القلب، فكأنما استجمعت حروفه سعادة قلبها بين دفتيه، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف. 

تفتحه اليوم، فتتذكر خطوط الرصاص تحت آياته تذكرها بشغف اللحظات المنقوشة على جدران القلب، فكأنما استجمعت حروفه سعادة قلبها بين دفتيه، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف. لا زال ذلك اليوم الذي كانت تذهب فيه عصرًا إلى المسجد، إذ تتجهز مسرعة لتلقي ما في جعبتها من حصيلة جهدها على مسمع مدرستها، فترتسم معالم الفرح القريب على قسمات وجهها وتنثر الدعوات في دربها حتى تغيب وراء باب المسجد، كانت توقفها على معان عظيمة فيه.

وكأني بها إذ هي تجالس الآيات، فتمطر عليها بحرًا من جمال النداءات العلوية، فتسرج قناديل نور الفؤاد، ورسائله تصدح في قلب كل مؤمن، في قلب كل متبكر عنه، في قلب من أغلق قلبه دونه، أو ألقى السمع وهو شهيد، تلك اللحظات يقع القلب على حروفه قبل العيون، والدمع يسيل من على جفون القلب قبل أن تجود بالدمع العيون، وفي كل كسر.

 ما أصعب الشفاء بعيدًا عنه، هو كهفك الذي لن تشعر فيه بظلام أو شجون، آياته لن تخذلك، لن تطرق بابه ثم يغلقه دونك، وفي قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا)، جرعة شفاء ودفقات من أمل، وسورة النور في ثناياها تنتظم نبضات روحك وتبصر وجهة الشراع جيدًا، وفي الحجر تتحطم حجارة الأصنام القابعة في جدران قلبك، وفي الإسراء تعرج الروح في سماء المعجزات وتصمت أمام تلك الحوادث الجسام، ففي كل آية حياة، وفي كل آية رسالة، وفي كل رسالة نبض.

تلكم الفتاة قد أتمت حفظه قبل ثلاثة من السنين وقد سبرت أغوار تلك اللحظات أمامكم لتبوح لكم أن تلك الفتاة، هي محدثتكم، إسراء، لأحرمكم الله من تلك اللحظة، وأي شيء أعظم من أن تحوي كلام الله في قلبك، وأن تضم الحياة بدفتيه، علاقتك مع القرآن أعظم من أن تحفظ لمجرد الحفظ، وما الحفظ إلا وسيلة لغاية أعظم.

لنطوي صفحات الأيام، وتحين تلك اللحظة الموعودة لتذهب للمرة الأخيرة إلى المسجد غير حافظة للقرآن، تحمل على راحتيها قلبا يتمخض، إذ لم يبق إلا القليل ليسجد، إذ أتم حفظه واستجمع فيه أعظم رسالة، تتهادى خطواتها إلى المسجد وأخذت تتلو ونبضات القلب مع نبضات الحروف حتى تناهى النبض إلى قوله تعالى (ولله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) فكان الختم عند تلك الآية من سورة المائدة، صمت المسجد برهة، وسمعت صوت البكاء بداخلها، تتهادى أصوات المباركين في المسجد، لتخرج منه بعدها أول مرة وهي حافظة له، كأنما تعب سنة أو يزيد اغتزل أمام تلك اللحظة، لتعود الى البيت وقد خبأت عنهم ذلك الخبر قبل الختم بفترة، فهنيئًا لولادة قلب جديد، هنيئًا لعمر جديد.

تلكم الفتاة قد أتمت حفظه قبل ثلاثة من السنين وقد سبرت أغوار تلك اللحظات أمامكم لتبوح لكم أن تلك الفتاة، هي محدثتكم، إسراء، لأحرمكم الله من تلك اللحظة، وأي شيء أعظم من أن تحوي كلام الله في قلبك، وأن تضم الحياة بدفتيه، علاقتك مع القرآن أعظم من أن تحفظ لمجرد الحفظ، وما الحفظ إلا وسيلة لغاية أعظم، هي أن تتمثل فيك الآيات، لا أريد من الحفظ أن يزيد النسخ من المصاحف فحسب، فبيوتاتنا ومساجدنا تضج بها ،نريد قرآنا يمشى على الأرض، وفقكم الله للحفظ والعمل بهذا القرآن العظيم وزادكم به رفعة، والسلام!