بنفسج

"لباس طائفي": اخلعي حجابك في بلاد مسلمة

الجمعة 12 يونيو

"هُناك شُرطةٌ على أبوابِ الجامعة، حاوِلنَ تخبِئتِي بينكُنّ لألا يلاحظونني بالحجابِ فيمنعونني من الدخولِ واِجتيازِ الاِمتِحان، أو يجٌرّونني إلى مركزِ الشُّرطة"، كانت هذِه عِباراتُ هلعٍ لِإحدى زمِيلاتِي المُحجّباتِ ونحنُ نهمّ بالدّخول إلى جامِعتِنا فِي فترَة الاِمتِحانات، فترةٌ سبقَت الثورة التونسيّة بعدّة أشهُر.

كانت تتجوّل في الأسواقِ لتشتري ما تحتاجُه، فإذا بشرطيّ يجرّها مِن حجابِها إلى مركزِ الشّرطة ليعاقبها ويجبرها على توقيعِ اِلتزامٍ بعدمِ اِرتِداءِ الحجابِ مرّةً أخرى. وأخرى تتّجهُ إلى عملِها في إحدى صباحاتِ عهدِ العهد المظلم، فإذا بأحد أفرادِ الشرطة يجرّها إلى أحد مراكزِ الأمن قائلا لها: "تعالي معنا لتُوقّعِي على اِلتزامٍ بعدمِ اِرتداء (الزيّ الطائفيّ) مرّة أخرى". هكذا كانُوا يُسمّون حِجابَنا: "الزيّ الطائفيّ". كانوا يأمُرُون كُلّ مُحجّبةٍ باِستِبدالِ الحجابِ باللّباسِ التّونسيّ، ولرُبّما كانُوا يقصِدون بهذا الأخيرِ الغِطاء التّونسيّ الذي كانت ترتدِيه النّساء أو كما نُسمّيه في تونس ب"السَّفْسَارِي".

 | تهمة جديدة

يُسمّون حِجابَنا: "الزيّ الطائفيّ". كانوا يأمُرُون كُلّ مُحجّبةٍ باِستِبدالِ الحجابِ باللّباسِ التّونسيّ، ولرُبّما كانُوا يقصِدون بهذا الأخيرِ الغِطاء التّونسيّ الذي كانت ترتدِيه النّساء أو كما نُسمّيه في تونس ب"السَّفْسَارِي".
 
تُهمةٌ جديدةٌ تُضافُ إلى سجلّ التّهمِ في بلدٍ مُسلمٍ يُمنعُ فيه فرضٌ من فرائضِ الإسلامِ كالحجاب، واسمٌ جديدٌ يُطلقُ عليهِ وهو "الزّيّ الطّائفيّ".

تُهمةٌ جديدةٌ تُضافُ إلى سجلّ التّهمِ في بلدٍ مُسلمٍ يُمنعُ فيه فرضٌ من فرائضِ الإسلامِ كالحجاب، واسمٌ جديدٌ يُطلقُ عليهِ وهو "الزّيّ الطّائفيّ"، المنشور المشئوم، المنشور الثّامنُ بعد المائة الذي صدر في عام 1981 أي في أواخِر حُكمِ بورقيبة الذي اِنقلب عليهِ بن علي واستولى على السّلطةِ في عامِ 1987 وواصل العملَ بِهذا المنشورِ، ونَكَّل بكلّ من اِختارت اِرتداء الحِجاب ومَنعها مِن دخول أيّ مؤسسة تابعة للدولةِ؛ حرمَها مِن حقّها في التعليم؛ حرمها من حقّها في العمل؛ حرمها من السّيرِ في أنهجِ وشوارعِ وطنِها بأمانٍ إن هي اِرتدت حجابها الشّرعيّ؛ حرمها مِن التسوّق دون خوف من أن تُجَرَّ إلى مركزِ الخوفِ لتلتزم بألّا تلتزِم مرّة أخرى بفرضٍ مِن فرائضِ دِينِها الحنِيف.

هل يُمكِنُكِ تخيّلُ الأمر؟ هل يُمكِنكِ تخيّل أنّكِ مُسلِمة في بلدٍ مُسلِم، بلدٍ مُنير بالإسلامِ مِثل تونس، منيرٍ بِجامِعِ الزيتونة، بجامِع عُقبة ابن نافع، أرضٌ وطأتها أقدام صحابةِ رسولِ الله لنشر الإسلام، أرضُ أفريقيّة، أرضُ العبادلة السّبعة، أرضُكِ التي انتشر فيها الإسلام وليس إحدى الدّولِ التّي هاجرتِ إليها وطاردتكِ فيها كذبة الإسلاموفوبيا، والعنصرية البلهاء!

إنّها أزقّةُ وطنِكِ الذي وُلِدتِ وترعرعتِ فِيه، إنّها جُدرانُ الوطنِ حِين تسجُنُكِ وتُهدّدُكِ بكلّ العِباراتِ التّي خطّها الظّالمون على حجارتِها وآجُرّها وألوانِ طِلائِها، جُدرانٌ وشوارِعُ ومراكزُ كانت تُسمّى بمراكزِ الأمنِ، فكانت للمحجّباتِ مراكزَ خوفٍ، حملَت خوفَ كلِّ اِمرأةٍ وفتاةٍ وأُثقلتها ذاكرةُ كلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ، واِحتفظتْ باِرتِعاشاتِ الخوفِ في أيدِيهِنّ وهُنّ يُحكِمْنَ إغلاقَ قبضاتِهِنّ على ربطةِ الحجاب، وستحتفِظُ إلى اليومِ الذي ينتهِي فيه هذا العالمُ بخيبَةِ كلّ من حمل ظُلما.

| "الجدران لها آذان"

كُنّا نخاف من أن تتسمّع علينا الجُدران فتبيعنا كما بِيعَ الوَطن، كُنّا نخشى مِن أن ننقُد نِظام حُكمِ المخلوعِ ونحنُ جالسون على طاولة العشاء نتبادلُ أطراف الحديثِ، وإن فعلنا فسنسمعُ مِن أحدِ أفرادِ العائلة تلك العبارة الشهِيرة "اِخفِض صوتك أو اُصمُت فالجدرانُ لها آذانٌ".

كلّ جزءٍ مِن هذا الوطنِ كان بمثابةِ الأذُنِ التي تتنصّت علينا وتأخذ قبسًا مِن حرّيتِنا. كانتِ الكثيرُ مِن العائلاتِ تمنعُ فتياتِهِنّ ونسائهِنّ من اِرتِداءِ الحِجابِ خوفا من أن يُحرَمنَ من حياةٍ طبيعيّة.

كُنّا نخاف من أن تتسمّع علينا الجُدران فتبيعنا كما بِيعَ الوَطن، كُنّا نخشى مِن أن ننقُد نِظام حُكمِ المخلوعِ ونحنُ جالسون على طاولة العشاء نتبادلُ أطراف الحديثِ، وإن فعلنا فسنسمعُ مِن أحدِ أفرادِ العائلة تلك العبارة الشهِيرة "اِخفِض صوتك أو اُصمُت فالجدرانُ لها آذانٌ".  كل جزءٍ مِن هذا الوطنِ كان بمثابةِ الأذُنِ التي تتنصّت علينا وتأخذ قبسًا مِن حرّيتِنا، وكثيرا جدّا مِن أنفُسِنا التوّاقةِ لأنْ تبقَى كما خلقها الله حُرّة.

 كانتِ الكثيرُ مِن العائلاتِ تمنعُ فتياتِهِنّ ونسائهِنّ من اِرتِداءِ الحِجابِ خوفا من أن يُحرَمنَ من حياةٍ طبيعيّة، خوفًا مِن أن يتٍمّ تتبعُهنّ، خوفًا مِن أن يُحرمن مِن التّعليم، وخوفًا مِن دعوتهِنّ إلى مجالِسِ التأديب في الجامعات وطردهنّ مِن أقسامِ الامتحانات، وإجبارِهنّ على رفعِ الحجابِ في ساحاتِ المعاهِدِ والجامعاتِ، وطردِهِنّ مِن المبيتاتِ الجامعيّة، وحِرمانِهنّ من التوظيف أو طردِهنّ من وظائفهِنّ إذا هُنّ اِرتدين الحجاب.

 وقد تمّ في عام 2003 إيقاف موظفة عن العمل لمدّة ثلاثة أشهر وحِرمانها مِن مُرتّبها ثمّ إحالتها إلى مجلس التأديب، وذلك بسبب اِمتناعِها عن رفعِ حِجابِها، وتواصل في فترةِ حُكمِ المخلوع جرّ العديد من الفتيات إلى مراكز أمن مُختلفة وتمّ نزع حجابهنّ عُنوة.

وكنتُ في كلّ مرّةٍ يجرونني فيها إلى المركز ويُرهِبونني ويعيدون عليّ الأسئلة نفسها أجاريهم بالإجابة بما يروقهم كأن أقول لهم أنّي أصلي مسدول اليدين بينما كنت أصلّي بطريقة القبض".

ولم تتوقّف هذه الِاعتداءات والانتهاكات للحرمات الجسديّة عند النّساء والفتيات وحسب، بل كان للرّجالِ نصيبٌ وافِرٌ منها، فقد كان كلّ رجُلٍ تظهر عليه مظاهر التديّن كإطالة اللّحيةِ أو اِرتداء القميص أو التردّد إلى المساجد يُجرّ أيضا إلى مراكز الشرطة للتّحقيق. في حوارٍ لي مع أحدِ الرجال الذين عانوا من هذا الظّلمِ والقهر، يقول لي : "لقد كانوا يجرّونني إلى مركزِ الشّرطةِ لأنّي أُطيلُ لِحيتِي، ويسألونني عن سِيرتِي الذّاتيّة منذ أن كُنتُ طفلا وحتّى يومِي هذا، ويضعون كلّ تفاصيلي في ما يسمّى ببطاقةِ الإرشادات، وكانُوا يسألونني إن كنت أصلّي بطريقةِ الإسدالِ أو بطريقةِ قبضِ اليدينِ، فإن كنتُ أصلّي بطريقةِ الإسدالِ فأنا غيرُ تابعٍ للمذهبِ المالكيّ، وبالتالي غير تابع لبلدي تونس، ويسألونني أين أصلّي الصبح والتوقيت الذي يستغرقني في صلاةِ الصبح وأين أصلّي صلاة الجمعة، يسألونني عن انتمائي السياسيّ وعن الكُتب التي أقرأها.

 كما أنّهم يهدّدونني إن أنا كذبت في الإجابة عن نوعيّة الكتب التي أقرأها بتفتيشهِم لبيتنا، كانوا يملؤون بطاقة الإرشاداتِ هذه، وكان رئيسُ المركزِ يُملِي على كاتبِه ويأمره بكتابة أنّي سألغِي اللّحية التي أطيلها، وإن اعترضتُ على كلامِه أو نجح في اِستفزازي بظلمه فسيقومون بضربِي والتنكيل بي وسجني، وكنتُ في كلّ مرّةٍ يجرونني فيها إلى المركز ويُرهِبونني ويعيدون عليّ الأسئلة نفسها أجاريهم بالإجابة بما يروقهم كأن أقول لهم أنّي أصلي مسدول اليدين بينما كنت أصلّي بطريقة القبض".

كثيرة يطولُ ذكرها ويعيَى القلب ويحترِق بتفاص، يلها مِن تعذيب وتنكيلٍ واِغتصابٍ لزوجات المُعارضين للنّظامِ أمام أزواجِهنّ، ومع هذا، لا يزال العبيدُ حتّى اليوم يتحسّرون على نِظامِ المخلوعِ الذي اِنتقل إلى مزبلةِ التّاريخِ، وطُويت معه صفحة الاِنتهاكات السوداء، ولكنّ هؤلاء العبيد يريدُون إخراجه من المزبلة وتبييض تاريخِه الأسود، ولا يزالُ العلمانيّون الذين يُعانون من "الحِجابُفُوبيا والصّلاتُفوبيا والمساجدُفوبيا" يُمجّدون المُجرم ويبرؤونه ويأملون إخراجه مِن قبرِه وإعادته إلى كُرسيّ الظلم والاِستبداد.

 لا يزالُ العبيدُ يرتجِفُون مِن بُرودة الحريّة المُنعِشة ويرفعُون مظلّة الاِستبدادِ التّي تعوّدوا عليها، ولا تزالُ تهزّهم هزّا وتقولُ لهُم بأنّ النّساء كُنّ يُغتصبنَ أمَامَ أزواجِهِنّ ويُجِيبُونك بأنّهم لم يعُودُوا قادِرين على شِراءِ كيلوغرامٍ مٍن الطّماطِم والفُلفُلِ وأنّه في عهدِ المخلُوعِ كانُوا يستطِيعون ملء قفّةٍ بالخضارِ بعشرةِ دنانير فقط.

 ولا تزالُ تهزّهُم وتقولُ لهُم بأنّ الأبناءَ والبناتِ كانوا يُغتصبُون أمام آبائِهِم وأُمّهاتهم، وهم يقولون لك بأنّهم كانوا يتمتّعون بالأمنِ والأمانِ في العهد البائد، مع أنّ ما يجرِي الآن مِن جرائم وسرقات وغيرها كان موجودا في العهد المظلم، ولكنّها كانت تتخفّى وراء تعتِيم الإعلامِ الواحد الذي يحكمه شخصٌ واحد ونظامٌ واحد وحِزبٌ واحد.

 ولا تزالُ تهزّهم وتقولُ لهُم أنّه قد كان النّظامٌ البُوليسيّ يقتحِمُ بيت كلّ مُلتزِمٍ ليعتقِلهُ في ساعات اللّيل المتأخرة وقبل الفجر بأسلوب ترهيبيّ له ولكلّ أفرادِ عائلتِه ولا يزالون يكرّرون عِباراتِ العبوديّة "الله أحد الله أحد وبن علي ليس مثله أحد"، ولا زلتُ أقول "خبز وماء وبن علِي وأمثالهُ لا".