مع بدء التحقيق، سألني المحقق إن كنت أريد التواصل مع محام فقلت: نعم، فطلب رقم محام وأكد أن هذه الاستشارة ستكون على حسابي الخاص.. لم يخطر حينها ببالي أي محام، رغم معرفتي ببعض الأسماء، ولكن على كل الأحوال لا أحفظ أي رقم.. فصرفت النظر عن الأمر وطلبت العون من الله.
عرض عليَّ المحقق شرب فنجان من القهوة أثناء التحقيق، ولكني رفضت، والأمر ذاته تكرر حين عرض عليَّ طعامًا من طعامه الخاص.. عملًا بالقاعدة التي تقول: "لا طعام ولا شراب مع المحقق، ولا مصافحة أو أي شيء يمكنه أن يطبِّع العلاقة معه، تذكر دوماً إنه عدو.. حتى لو أحسن من معاملتك أو تظاهر بأنه يريد الخير لك".
بعد مضي ساعات طويلة مضنية أخبرني المحقق أن هذه الجولة من التحقيق قد انتهت، وطلب مني التوقيع على رزمة من الأوراق قال إنها أقوالي أثناء التحقيق، نظرت إليها.. مكتوبة بالعبرية وكثيرة جداً، رفضت، فلم يضغط عليَّ وأكد أن لا شيء فيها يسبب الضرر لي، فهو لم يكتب كلمة واحدة لم أنطق بها.. فأصررت على رفضي.. وانتهى الأمر بالرفض.
أتعبتني جداً فكرة أن هناك المزيد من جولات التحقيق.. لا أدري أين أو كيف أو متى.. ولكني احتسبت ذلك لله. أمرني بالاستجابة لأوامر المحققة التي اقتادتني إلى غرفة صغيرة في آخر الممر، وبدون أن توضح السبب طلبت مني أن أفتح فمي فرفضت، صرخت بي فازددت إصرارًا.. نادت امرأة أخرى كبيرة في السن وترتدي اللباس العسكري ذاته ولكن بتنورة بدلاً من البنطلون، وتضع على وجهها مكياجًا بطريقة فجة رعناء لا تليق بمن هي في مثل عمرها.
وفي أطراف أصابعها أظافر ملونة تشبه المخالب، الأولى حملت عودًا صغيرة تشبه فرشاة المكياج وفي إحدى طرفيها قطعة عريضة من الإسفنج، والثانية تكفلت بالضغط علي لأفتح فمي، أدركت مقدار غبائهما.. فلو أنهما أخبرتاني أنهما بصدد أخذ مسحة من أغشية الفم لفحص الحمض النووي، لربما لم أقاوم كما فعلت، ولكن تعنتهما وسوء معاملتهما كان السبب المباشر لمقاومتي.
ثم أخذتا بصمات أصابعي وكف يدي، وصورتاني صورًا عدة من أكثر من زاوية وكان علم دولة الاحتلال خلفي في كل منها. سحبتني المحققة بعدها من قيود يدي إلى طابق سفلي، إلى زنازين صُدمت لدى رؤيتها، قذارتها وبرودتها تتناقضا تماماً مع دفء الطابق الذي تقع في المكاتب ونظافته. فكت قيود يدي، ثم أغلقت الباب من الخارج، وهي تأمرني أن أخلع ملابسي كاملة لأنها ستعود لتفتيشي..
اقرأ أيضًا: بيان الجعبة وسمية جوابرة: صحافيتان في الحبس المنزلي
وقفت في وسط الزنزانة أُشغل نفسي باستكشافها: السرير عبارة عن قطعة سميكة من الإسمنت، مثبت في الجدار بارتفاع السرير العادي، ولكن بعرض قليل، قدرت أنه يصل إلى 70سم لا أكثر، ولا يوجد فوقها فرشة. الحمام عبارة عن زاوية فيها قاعدة حمام من المعدن اللامع داكن اللون، وهذه أول مرة في حياتي أشاهد فيها مرحاضاً بقاعدة معدنية.. وأعجب ما الأمر أنه لا يوجد فيه أي مصدر للماء!
المكان قذر، مضاء بضوء باهت برتقالي اللون، يُدخل شعورًا سيئًا في النفس. فكرت باستعمال الحمام، لحاجتي لذلك، ولكن لقذارته ألغيت الفكرة من عقلي. عادت إليَّ بعد دقائق برفقة مجندة أخرى تحملان عصيًا سميكة بأيديهما تنتهي بممسك مطاطي، وما يزال المسدس يتدلى من وسطها، وعندما وجدتني بملابسي غضبت جداً، وصرخت بجنون ولوحت بالعصا في وجهي وأمرتني بخلع ملابسي وهددتني بتمزيقها علي.
أخبرتها بأني لا أستطيع خلع أي شيء في زنزانة الجزء العلوي من بابها مكشوف أمام من يمرون في الممر، عبثًا حاولت إقناعي بالاستجابة.. فاضطرت لأخذي بغضب إلى زنزانة أخرى مغلقة بالكامل بعد وضع القيود المعدنية في يدي ثم أعادت فكَّها داخل الزنزانة الثانية.. وتحت ضغطها اضطررت إلى خلعت حجابي، ثم توقفت.. تابعت صراخها وتهديدها وتصرفاتها العنيفة معي.. فخلعت جلبابي.. ورفعت ذرعي للأعلى وقلت: هيا فتشي.
سلمتا الملف إلى مجنديْن، فكَّا قيودي واستبدلاها بأخرى أخرجها أحدهما من جيبه، وسحباني إلى سيارة باص صغيرة الحجم، مغلقة بالكامل ما عدا الباب الذي أحكما إغلاقه من الخارج بعد أن وضعاني داخلها.. كانت عبارة عن زنزانة معدنية متنقلة. أدركت أنها البوسطة التي سمعت عنها الكثير من الأسرى.. وهأنذا أعاينها بنفسي.
ويبدو أنها سئمت من بطئي، ومساوماتي، ويبدو أيضًا أنها كانت على عجالة من أمرها وتهمُّ بمغادرة دوامها وذلك من لطف الله بي؛ فقد كانت تتحدث إلى رجل عبر الموبايل، ففتشتني بيديها وبجهاز الماجنوميتر بعصبية وسرعة دون أن تطلب مني خلع المزيد.. وعندما انتبهت لوجود فردة قرط من الفضة في أذني.. أمرتني بخلعه وأخذته مني. ثم أعادت لي جلبابي وحجابي وغادرت الزنزانة بعد أن قفلت الباب عليَّ قائلة: بسرعة.. دون أي كلمة أخرى.
عادت مرة أخرى بعد دقيقتين تقريبًا برفقة المجندة الأخرى.. اقتادتاني إلى الخارج بقيودي، وأمام بوابة كبيرة، سلمتا الملف إلى مجنديْن، فكَّا قيودي واستبدلاها بأخرى أخرجها أحدهما من جيبه، وسحباني إلى سيارة باص صغيرة الحجم، مغلقة بالكامل ما عدا الباب الذي أحكما إغلاقه من الخارج بعد أن وضعاني داخلها.. كانت عبارة عن زنزانة معدنية متنقلة وضيقة جدًا.
أدركت أنها البوسطة التي سمعت عنها الكثير من الأسرى.. وهأنذا أعاينها بنفسي، في ظروف كنت فيها في شدة الضعف الجسدي.. حنجرتي تؤلمني بشدة، جائعة، عطشى، حرارتي مرتفعة، وعضلات جسدي متيبسة تؤلمني بشدة، ولكن إرادتي وثباتي وإيماني بالله وبقضيتي جاوزت الثريا.
اقرأ أيضًا: في مركز التحقيق.. وفصول المسرحية السمجة
كان النهار يوشك على الرحيل.. انطلقت بي البوسطة بسرعة كبيرة، ومشت في اتجاهات لم أعد أستطيع تمييزها.. وفقدت القدرة على تقدير الوقت أيضًا، تمددت على المقعد السيء لعل آلام عضلاتي تهدأ.. ولكن عبثًا حاولت. كانت البوسطة تنحرف بشدة يمينًا ويسارًا.. وكأن السائق يتعمد إيذاء من بداخلها، أقع أحيانًا، وأحيانًا أخرى يضرب رأسي بالمعدن المحيط بالمقعد.
لم يطل بي المقام في البوسطة حين توقفت في مكان مجهول بالنسبة لي، فُتح الباب وسُحبت من قيدي بدون كلام، سُلم الملف لأخرين، بَدَّلوا قيود الأيدي والأجل، واقتادني المجهولون الجدد إلى زنزانة قذرة جدًا، شديدة البرد، أرضيتها غارقة بماء المطر، فيها سرير من الإسمنت بدون فرشة، وقاعدة حمام مكشوفة في إحدى الزوايا بالقرب من الباب.
مكثت فيها لبعض الوقت، وتساءلت عن مقدار الوقت الذي سأمضيه فيها خاصة أنني لم أعد أستطع تحمل البرد أكثر من ذلك.. مفاصلي وعضلاتي تؤلمني بشدة. حضر رجل يرتدي مريولًا أبيض، برفقة السجان، فتحوا الباب، واقتادوني إلى ما علمت لاحقًا أنها العيادة الطبية، وأن الذي يرتدي الأبيض هو الممرض( حوفيش) وعلمت أيضًا أنني في سجن هشارون في كفار سابا المحاذية لمدينتي الحبيبة قلقيلية من الجهة الغربية داخل الخط الأخضر.
ملأ الممرض ملفًا من الأوراق... سألني عن الأمراض التي أُعاني منها والأدوية التي أتناولها بانتظام... إلخ.
أخذوني إلى مكاتب عدة أُعطيت فيها رقم أسير، وأصبح لي ترتيب بين الأسرى الفلسطينيين، وصوروني وخلفي علم الاحتلال صورًا عدة ومن عدة زوايا، وطلبوا مني التوقيع على أوراق لا أدري ما هيتها؛ وقد كانت مكتوبة بالعبرية، فرفضت.. فوقعوا بالنيابة عني.. أسوأ ما الأمر أنهم عاملوني باحتقار شديد: لم يعد لي اسم، أو هوية، أصبحت مجرد رقم، ومجموعة من الأوراق وقيود يسحبونها أينما أرادوا.
لم أعد الدكتورة المثقفة الناشطة التي تُثقلها هموم وطنها وأمتها.. أصبحت مجرد شيء يفعلون به ما يشاؤون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء أمر يوجهونه لها بكلمات بسيطة.. كل سلوكياتهم أوصلت لي رسالة واحدة: أنت هنا مجرد شيء أيتها المجرمة الإرهابية.. لا تهاون عندنا بمن يمكنه أن يهدد أمن "إسرائيل" مهما كان حجم هذا التهديد!