بنفسج

في مركز التحقيق.. وفصول المسرحية السمجة

الأحد 06 يوليو

سحبوني من القيد المشدود على يديَّ، وأنزلوني من الجيب العسكري. وما يثير العجب أنهم لا يطلبون منك شيئًا.. لا تتلقى منهم أوامرَ، بل يشرعون في العمل فتفهم لاحقًا ماذا يريدون! في مكان علمت لاحقًا أنه معسكر للجيش، وأدركت أنه يقع غرب مدينتي الحبيبة قلقيلية. أبقوا العصبة على عيني والقيد في يدي، وأوقفوني قرابة نصف ساعة تحت المطر، كان الجو شديد البرد ماطرًا، ابتلت ملابسي، وأخذ جسدي يرتجف بقوة.

 أحسست بيديَّ تتجمدان تحت ضغط القيود والبرد، استعنت بالاستغفار والتسبيح والتهليل، على التصابر، وحلَّقت في الآفاق بعيدًا عن المكان الذي فرضوه عليَّ في هذه الظلمة الدامسة.. وقفوا يتحدثون بالعبرية ويضحكون بالقرب مني، ويتصرفون وكأني لست موجودة.

شعرت بأنفاس حارة تلامس يديَّ، تيقظت أحاسيسي، وبدون تفكير ندَّت عني صرخة هلع وقفزت إلى الأمام.. إنه كلب؛ أخاف الكلاب، حتى الأليفة منها، فكيف بالكلاب العسكرية سيئة الصيت والسمعة والتي يهاجمون بها الأسرى ويقتحمون بها مناطق سكننا وبيوتنا؟ سمعت همهمات الكلب ولم أتمكن من رؤيته.

اقتادوني خطوات قليلة إلى مكان آخر.. أجلسوني على كرسي خشبي غير مريح، بقيودي وعصبة عينيَّ، تحت سقف لا أدري ماهيته وأمام باب مفتوح، لم أشعر بوجود في الغرفة، ولكن راعني شدة البرد فيها، لا أدري إن كانوا قد فتحوا مكيف هواء بارد أم أنه البرد الطبيعي، برد كانون الثاني، ولكن ما أعلمه أنني كنت أرجف طوال الوقت بردًا، وأشعر بي أتجمد.

سمعت الضابط يصرخ بالجنود، أدركت أنه يأمرهم بإبعاد الكلب عني. أدخلوني غرفه دافئة، كان فيها شخص استطعت رؤية بسطاره العسكري من أسفل عصبة عيني، سألني عن الأمراض المزمنة التي أعاني منها، والأدوية التي أتناولها دومًا، سألني بالإنجليزية بمصطلحات طبية أُتقفنها، فأجبته، وأخذ لي قياس الضغط، لم يُعرفني على نفسه أو يخبرني على الأقل ما دوره، فسألته إن كان طبيبًا فأجاب بالموافقة.

كنت في ذلك الوقت أعاني التهابًا حادًا في الحنجرة، حرارتي مرتفعة، وبالكاد يُسمع صوتي. أخبرته، فاستنكر قائلًا وباستخفاف: من أخبرك بذلك؟ فقلت له: أنا ممرضة، عملت في المستشفيات ودرَّست في الجامعة طلاب التمريض، وزوجي طبيب فحصني بالأمس وشخَّصني.. فتجاهل ما قلت تمامًا، وكأنه يليق بنا فقط أن نكون أميين، غير متعلمين، بيننا وبين العلم والمعرفة بون شاسع! لم أتلق أي حبة دواء تخفف ألمي أو تخفض حرارتي.. عشرة أيام بقيت أعاني فيها بشدة حتى كتب الله لي الشفاء من تلقاء ذاتي بأمر الله.

اقتادوني خطوات قليلة إلى مكان آخر.. أجلسوني على كرسي خشبي غير مريح، بقيودي وعصبة عينيَّ، تحت سقف لا أدري ماهيته وأمام باب مفتوح، لم أشعر بوجود في الغرفة، ولكن راعني شدة البرد فيها، لا أدري إن كانوا قد فتحوا مكيف هواء بارد أم أنه البرد الطبيعي، برد كانون الثاني، ولكن ما أعلمه أنني كنت أرجف طوال الوقت بردًا، وأشعر بي أتجمد.


اقرأ أيضًا: إيناس فرحات: ابنة خنساء فلسطين وأم الشهداء السبعة


كانت الكلاب تتجول معظم الوقت في المكان، أسمع نباحها أحيانًا وهمهماتها غالبًا. وكأن ذعري منها قد تلاشى تدريجيًا أو لنكون منصفين أنه قد انخفض إلى الحد الأدنى. تسلحت بالدعاء والرجاء أن ينجيني الله من كيدهم وجبروتهم وكلابهم.  كانت ليلة طويلة.. طويلة جدًا، آلام حلقي وآلام الروماتيزم في مفاصلي تضاعفت أضعافًا كثيرًا، شعرت أحيانًا أنني بتُّ أعجز عن تحريك جسدي.

كنت أصيغ السمع طوال الوقت لعل أذان الفجر يبلغ آذاني من مكان قريب، ولكن عبثًا حاولت. أشغل بالي صلاة الفجر، ناديت الجنود لأسألهم عن الساعة، فنهرني أحدهم بفظاظة ولم يجبني.. ومن أسفل عصابة عيني كنت أسترق النظر إلى الخارج، حتى بدأت أشاهد ضوء الصباح يزين السماء ويشق ظلمة ليلها.. 

صليت في مكاني دون أن أعلم تمامًا أين اتجاه القبلة، ولكن قلت في نفسي: "أينما تولوا فثم وجه الله".. شعرت بمعية الله، وأسبغت سكينة عجيبة على نفسي شعورًا بالراحة رغم الآلام التي تقرض فقرات ظهري ومفاصلي. كان الحديث الذاتي يملأني نقاشات تحتدم داخل نفسي، وشعور براحة البال والطمأنينة يفيض في نفسي، لم أتذمر أو يداخلني شعور بالندم، أبدًا. بل ازددت ثقة بصواب بوصلتي.

أشرقت الشمس بعد غياب يومين شديدي المطر، وتوقف الهطول. سمعت أصوات تلج الغرفة، سحبني أحدهم من قيودي بعد أن أحكم شدها لدرجة شعرت بالدم يحتبس في يديَّ، صرخت معترضة، فأمرني بالعربية أن أصمت، وأدخلني إلى سيارة مدنية بيضاء اللون تتسع لأربعة ركاب وسائق، أجلسني في المقعد الأمامي بجانب السائق، ثبَّت حزام الأمان على صدري وفوق يدي، وأجلس شابًا معتقلًا مثلي في المقعد الخلفي وجلس إلى جانبه ضابط آخر، وقبل أن تنطلق بنا السيارة بسرعة إلى مكان لا أعلمه، شدَّ عصبة عينيَّ بقوة، وقال بنبرة ساخرة تحمل في ثناياها التهديد: حماس.. هاه؟؟ 

وقد ردد الضابط الذي يجلس في الخلف هذه العبارة مرات كثيرة خلال نقلي.. وكأنه يحاول ضغطي نفسيًا. وعلمت لاحقًا أنهم ضباط من الشاباك.
سارت بنا السيارة قرابة ساعة من الزمن، ولم تسمح لي العصبة المشدودة بقوة أن أعلم شيئًا عن وجهتنا. توقفت السيارة، وسحبوني من قيودي خارج السيارة، تعثرت وكدت أقع لولا لطف الله، وسرت لمسافة قصيرة قبل أن أصبح داخل بناية شعرت فيها بالدفء يتسلل إلى أوصالي، وعبر مصعد كهربائي نقلوني إلى طابق علوي تسلَّمني فيه ضابط آخر أزال العصبة عن عيني.

 وثبَّت في رجليَّ قيود معدنية، واقتادني عبر ممر طويل إلى مكان تصطف على جانبه مكاتب صغيرة، أجلسني أمام أحدها على مقعد مريح، ودخل المكتب لدقائق عدة وتركني وحدي، أمرني ألا أتحرك من مكاني، كان أناس يتحركون في الممر، يرتدون زيًا عسكريًا موحدًا، وأحيانًا زيًا مدنيًا، وشاهدت معتقلين مثلي بقيود يتنقلون برفقة ضباط.


اقرأ أيضًا: سناء سلامة: صاحبة السجين الوفية لرفات الشهيد


أُدخلت إلى غرفة صغيرة، دافئة، يجلس رجل أحول يتكلم العربية بطلاق خلف مكتب نظيف ومرتب، عرَّفني على نفسه: كابتن...، أنت الآن في مركز أرائيل للتحقيق، ابتسامة عريضة تتربع على شفتيه، وملامح تتقنع بقناع من الود والاحترام، سألني: ألا تعرفيني؟ استنكرت سؤاله! فمن أين لي أن أعرفه؟ قال: كثير ما آتي إلى قلقيلية، آكل في مطاعمها، وأتجول في شوارعها... 

شككت بصدق كلامه، ولذت بالصمت وقلت في نفسي: ها قد بدأت المسرحية. واستحضرت في ذهني مسرحية تاجر البندقية.. والأوجه المختلفة التي بمقدور الشخص أن يتقنع بها. بدأ يسرد على سمعي الألقاب التي أتلقب بها، وخاصة العلمية منها، ويشعرني بالتوقير والاحترام.. قبل أن يبدأ أي من الأسئلة التي أعدها مسبقًا.

كانت حنجرتي تؤلمني بشدة، لدرجة كان الكلام يؤذيني، أشعر بالإنهاك مع ارتفاع حرارتي وعدم تناولي أي طعام أو شراب من بعد ظهر اليوم السابق.. سألني: هل تؤلمك القيود البلاستيكية في يديك؟ فأجبت بالإيجاب.. فقال: أشعر معك.. سأنزعها.. لا أدري لماذا يفعلون ذلك. وتصنَّع بأنه يبحث عن أداة لقطعها، فتح جرارات المكتب، والخزانة الملاصقة له، وتظاهر أيضًا بأنه لم يعثر على واحدة، فبدأ بأسئلته وعرض أدلته عليَّ وكأنه متضايق لأني أجلس أمامه بقيودي.

قرابة ثماني ساعات أمضيتها في تحقيق مضن، كثيرًا ما نظرت خلالها للساعة المثبتة على الجدار.. كانت محققة أخرى تدخل وتشارك في التحقيق، عاملتني بشراسة وعنف، وتهجمت عليَّ وأوهمتني بأنها تهمُّ بضربي، فيتدخل المحقق الآخر ليوهمني بأنه يحترمني ويدافع عني، ويعزُّ عليه أن يراني أُهان بهذه الطريقة... في مسرحية مكتملة الأركان.. ولو أني لم أقرأ عن غرف وأساليب التحقيق، ربما لانطلت عليَّ خدعهم.