بنفسج

كروم العنب: أولها "الحصرم" وآخرها مونة الشتاء

الأربعاء 19 اغسطس

فسحة من ضيق البيوت القديمة المتلاصقة إلى رحابة (الكرومات)، كانت تبدأ مع موسم الربيع، ينتقل فيها الناس من البلدة القديمة في الخليل إلى المناطق الواسعة على مدى مدينتهم. البيت الخليلي القديم، كان غرفة واحدة لا تكاد تجد فيها من متاع الدنيا شيئًا غير الحاجيات التي ينام عليها، ويأكل بها، أما الكروم، فكانت سعةً لهم بعد ضيق، بنى الناس فيها بيوت الحجر (السِّير)، أو غرفة الطوب أو الخيام، لتبدأ فيها مع انتهاء موسم المطر مواسم خيرات الأرض.

شجرة العنب أو (الدالية جمعها دوالي)، كما يسميها أهل المدينة، واحدة من بركات هذه الأرض المقدسة، وواحدة من الأشجار العجيبة التي لم يترك الناس منها شيئًا إلا استثمروه، حتى ظلها الذي صنعوا منه معرشات للظل. في موسم الهجرة من البيوت القديمة إلى الكروم، تبدأ حكاية الدوالي من أسطورة التسمية التي تحكي الجدّات أن نبي الله محمد، أو إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - قد مرض فدعا الله تعالى بأن: (اللهم أرسل دوا–لي) فأنبت الله له شجرة العنب، فكانت دواء له.

| كُل أول التين وآخر العنب

أما الزبيب؛ وهو العنب المجفف الذي يفرد في الشمس بعد أن يغرق بالماء المخلوط بزيت الزيتون، ونوع من الكربونات الخاصة التي تحفظه من الحشرات، وما إن يبدأ بالجفاف، حتى تأتي شتوة المساطيح التي تؤذن الناس بجمع زبيبهم وتينهم ودبسهم، وخيرات أرضهم، والعودة إلى بيوتهم لقضاء فصل الشتاء فيها.
 
دبس الشمس الذي يوضع بدل الغلي في الشمس فترة طويلة بعد أن يفرد في صواني واسعة، وطعمه عندي أطيب من الآخر، إلا إنه لا يؤمن عليه من الشوائب وسقوط الحشرات فيه.

وتستمر الحكاية من استثمار كل شيء فيها، فالورقة الخشنة طعام مفضل للحيوانات التي يربيها الناس في البيوت، وورقها الناعم طعام شهيّ حين يلفّ بيد الجدات والأمهات، و(يسفّط) فوق بعض قطع اللحم البلدي الدسم. أما، من وكيف استوحت أول امرأة في هذا العالم فكرة حشوِ الورق بالأرز واللحم المفروم وغليها مع عصير البندورة، فلست أدري لها أسطورة، ربما كانت وحيًا أو إبداعًا لجدةٍ نائمة تحت جدار الحجر ساعة عصرية. أو ربما كانت مدفوعة من قسوة حياة تلك الأيام وجوعها، لا أدري.

أما أغصان الشجرة، فهي تطول كل عام، ولهذا، ومثل جدائل الفتاة الفاتنة يجب تقليمها كل عام في وقت محدد، وإلا ضعف حملها عامًا بعد عام. نعم، الدالية تحتاج للرعاية كثيرًا، ولا يجب أن يتأخر صاحبها عن موسم (القنابة) وإلا ضعفت الشجرة. هذه الأغصان المقلّمة يسميها الناس هنا (العِبري)، ولقد حاولت أن أفهم من أين جاءت التسمية، وهل لها علاقة بالعابرين على أرضنا؟ فلم أجد لهذا جوابًا، ولكن المهم أن هذه الأغصان مهمة لحياة الفلاح، لأنها أول ما يشعل به نيران الطبخ في (موقدته) الحجرية قبل أن يضع فوقها بعض الحطبات الكبيرة (الأرامي)، التي تُستأصل أيضًا من شجرة العنب، ولا يورث إشعالها رائحة سيئة كما تفعل أخشاب التين مثلًا.

أما العنَب نفسه، فحكاية أخرى، فمنه أنواع كثيرةً كلها تستلذ وتستطاب، بعضها ينضج قبل بعض حتى ينتهي آخرها مع بداية فصل الشتاء في شهر تشرين الأول، بعد أن تبدأ بعض أنواعها تنضج قبل ذلك بشهرين أو أكثر قليلًا. اعتاد الناس على رشها بالمبيدات المختلفة، ودهن فروعها ببعض المواد السامة لقتل الحشرات التي تعتاش عليها، وتجلب لها (الصيبة) التي تفتك بها حيث لا تُبقي من حبات عنبها ولا تذر.

ولا تزال النساء العاملات في ميدان الدبس يتبارين ويتباهين بنقاء الدبس وصفاء لونه ولذّته، دون إضافة أي مادة أخرى إليه كالسكر الصناعي.

أول العنب، (الحُصرُم)، تحبه الصبايا لحموضته كما تقول الجدّات، وهو لذيذ بعد تخليله جدًا لمن يحب المخللات الحامضة، وألذ العنب آخره كما يقول المثل: (كُل أول التين وآخر العنب) لأنه يكون حينها قد امتلأ حلاوة، وصارت الحبة منه كقطرة العسل، بينما تكثر الحشرات على التين في آخره وتكثر فيه الحبات الخربة.

يخّزن الناس فضل الصيف للشتاء ك(مونٍة) حيث تحتوي بيوت البلدة القديمة على غرف تحتية تخزن فيها مونة الشتاء بعد جمعها في فصل الصيف، وأي شجرة ستعطينا مونة كشجرة العنب، فالدبس أهمها وأطيبها، حيث يعصر العنب بعد أن تدب فيه الحلاوة، ويُؤخذ منه الماء ويغلي حتى يسخن (غلوة) ثم يُرفع عن النار، ويُترك حتى يروق، فيُؤخذ منه الماء الصافي تمامًا، فقط (الرابوء أو الراووق)، ولعمري إنه شراب رائق طيب، فيه خلاصة ماء العنب، يضيف الناس إليه أثناء العصر مادة تؤخذ من المغارات، يسميها الناس (حِوَّر) وهو تراب أصفر يوضع فوق العنب أثناء دعسه بالأرجل في (المَدعَس)، ذلك البناء الحجري الذي لم يكن يخل منه بيتٌ خليلي، يوضع فيه العنب، ويدعس، ويخرج الماء من مزراب صغير يصنع في طرفه بعد أن يُوضع على مدخل هذا المزراب بعض العُرمُش، وهو بقايا قطف العنب بعد إزالة العنب عنه.

ض2.png

فيُنزل الماء إلى وعاء يُسكب منه في الدست، وهو وعاء نحاسي كبير أو ضخم، حسب كمية العنب الذي تملكه بعض العائلات في الحارة، ويتناوب أهل الحارة على استعارته من بعضهم لعمل دبس الموسم. بعد أن يروق العصير، ولا يروق إلا بإضافة الحوَّر، ولا أدري من أوحى إلى الناس وضع هذا التراب على العنب، أو لعله طفل لاهٍ رمى بعض التراب في العنب، فلاحظ الناس فائدته واستمروا على ذلك حتى اليوم، كما كل حكايات الاكتشافات العلمية التي تبدأ كما يقولون صدفة.

يُؤخذ منه الماء الصافي، وقد يكون هذا، في اليوم التالي للعصر بعد صلاة الفجر، يغلى على الناس حتى يتبخر منه الماء، ولا يبقى في الدِّست غير كمية بسيطة هي خلاصة عصير العنب الصافي التي سمَّاها الناس دبس العنب، ولا تزال النساء العاملات في ميدان الدبس يتبارين ويتباهين بنقاء الدبس وصفاء لونه ولذّته، دون إضافة أي مادة أخرى إليه كالسكر الصناعي.

ومن الدبس أيضًا، دبس الشمس الذي يوضع بدل الغلي في الشمس فترة طويلة بعد أن يفرد في صواني واسعة، وطعمه عندي أطيب من الآخر، إلا إنه لا يؤمن عليه من الشوائب وسقوط الحشرات فيه. أما الماء الراكد الباقي بعد أخذ الصافي، والذي يحتوي على بقايا الحوَّر وبعض الشوائب، فيوضع في كيس خيش وينزل منه نقطة نقطة، صافية نقية، ما أشهى كأسًا منها في صباح يوم جمعة مع صحن من التين!

أما الملبن، فلا يختلف كثيرًا عن الخبيصة، إلا أنه يترك في الشمس فترة أطول حتى يجف تمامًا على الأكياس المفرودة في الشمس. ويصنع الناس من حبات العنب النظيفة شيئًا شبيها بالمربى، يسميه الناس العنبية أو العين طبيخ.

هذا الماء يُؤخذ بعد يوم أو يومين ويعمل منه الخبيصة، خبيصة العنب؛ وهي عجيبة من عجائب جدّاتنا حين يضعن مع هذا العصير بعض السميد، ويحركنه ويسكبنه في صحون، ويزينَّ الصحن بالجوز الذي يكون قد حان موعد جمعه بالجوار، مع بعض حبوب (القريش). ولست أدري من أخذ عن الآخر أهل الخليل عن شمال الضفة، أو العكس، بمسألة الخبيصة التي يصنعها أهل شمال الضفة من ماء الخروب.

أما الملبن، فلا يختلف كثيرًا عن الخبيصة، إلا أنه يترك في الشمس فترة أطول حتى يجف تمامًا على الأكياس المفرودة في الشمس. ويصنع الناس من حبات العنب النظيفة شيئًا شبيها بالمربى، يسميه الناس العنبية أو العين طبيخ، ولعل أصلها العنب طبيخ، حيث يطبخ العنب كما هو مع إضافة بعض العصير عليه، ويغلى حتى يصير مربى، ويضاف إليه بعض حبوب اليانسون، ثم يوضع في علب محكمة الإغلاق.

وآخر هذه الخيرات الزبيب؛ وهو العنب المجفف الذي يفرد في الشمس بعد أن يغرق بالماء المخلوط بزيت الزيتون، ونوع من الكربونات الخاصة التي تحفظه من الحشرات، وما إن يبدأ بالجفاف، حتى تأتي شتوة المساطيح التي تؤذن الناس بجمع زبيبهم وتينهم ودبسهم، وخيرات أرضهم، والعودة إلى بيوتهم لقضاء فصل الشتاء فيها.