بنفسج

صغيري أمير: عن رحلتنا الخاصة جدًا

الإثنين 26 أكتوبر

مع بزوغ ساعاتِ فجر ليلةٍ ممطرة بردها قارس، آلام شديدة أيقظتني على وقع مخاض لينذر بنهاية رحلة الوهن وبداية حياة جديدة. حينها وبالرغم من كل الأوجاع التي طالتني، إلا أنني كنت سعيدة لأنني سأرى طفلي أمير أخيرًا. الجو كان باردًا ولكن قلبي كان دافئًا جدًا ينتظر بحب لحظة لقائنا الأولى، التي أردت أن أحفظها جيدًا لأخبره كف نظر إليّ للمرة الأولى.

تحولت كل آلامي إلى أصدق مشاعر الحب على وجه الأرض، فعندما تحتضن الأم وليدها تتناسى كل تجربة المخاض وأوجاعه، وتخوض أصدق حالة حب عرفتها البشرية. لكن سرعان ما انطفأت فرحتي وعصف بقلبي زلزالًا هز حياتي كلها. وكأني أخوض معركة مخاض أخرى ولكنها أكثر عنفًا ووقعها أشد وطأة على قلبي.

صور2.jpg
الصغير أمير في المشفى برفقة والده

لكم أن تتخيلوا كيف لأم تجاوزت أشهر الحمل التسعة، وآلام مخاض لا يُعرف كُنهها إلا مجرب، وليل حالك انتظر الفجر ولَم يأتِ! كيف لها أن تتمالك نفسها، وقد كان عزاؤها في ذلك أن تحتضن طفلها لترى تقاسيم قلبه ويتلاشى كل الألم، ولكنني فوجئت بطفل بتقاسيم وجه ملائكية، وتشوهات في أجهزته الداخلية، لتبدأ تفاصيل قصة جديدة. كان يبكي بطريقة اعتيادية أو ربما ليست كذلك، لا أدري، ولكنني أدري جيدًا أن بكاءه اخترق قلبي، ليبكي قلبي معه أيضًا، ضاقت الدنيا علي، لم أستطع احتضانه أو إرضاعه، نتيجة انسداد في المريء وتشوهات أخرى في الجهاز الإخراجي والبولي.

عرفت معنى العجز حينها، وقتها تمنيت أمنية السيدة مريم " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيًا". ثم بدأت فيما بعد مرحلة استيعاب الصدمة أيقنت أن كل ما حدث ليس كابوسًا سأستيقظ منه بل إنه قدري الذي رضيت به. لملمت شتات نفسي ووقفت من جديد لكي لا أخذل طفلي الذي يحتاجني.

لملمت شتات نفسي، وعرفت أن حالة أمير تتطلب تعايش معها ولا يوجد حل جذري لها، ينبغي عليه حين يكبر أن يتفهم حالته، أي كيف أنه لن يستطيع قضاء حاجته كباقي الأطفال.

حقيقة لم أكن أعلم بحالته إلا بعد الولادة بعد إجراء عدة فحوصات طبية له، وفي البداية كانت هناك محاولات إخفاء تفاصيل حالة أمير الدقيقة عني كوني أمًا حديثة الولادة، ولكن في الليلة التالية تم نقله لمستشفى المقاصد، وهاتفتني طبيبة من هناك وأخبرتني بأدق تفصيلة عن حالة أميري، وقالت لي هذه الطفل سيمكث في المشفى فترة زمنية تتراوح ما بين ستة شهور إلى عام، كانت تلك المكالمة أصعب لحظة في حياتي كلها.

لملمت شتات نفسي، وعرفت أن حالة أمير تتطلب تعايش معها ولا يوجد حل جذري لها، ينبغي عليه حين يكبر أن يتفهم حالته، أي كيف أنه لن يستطيع قضاء حاجته كباقي الأطفال. سلسلة من العمليات الجراحية أُجريت له لمحاولة تعديل التشوهات في الجهاز البولي. أمير أيضًا لديه تشوه في قدمه اليمنى، وذلك يستدعي استخدام جهازًا خاصًا فيما بعد لتعديل شكلها.

وبدأت رحلتي الخاصة جدًا مع أمير ما بين عناية طبية وزيارات دورية للمستشفيات وعمليات جراحية. وبالرغم من أنني كنت أقضي وقتًا طويلًا في أروقة المستشفيات إلا أنه لم نيأس أنا ووالده، فكانت ثقتنا بالله أكبر من أي محنة. عكفت على التعرف على أمهات ظروفهن مشابهة لحالتي وحالة أمير، ووجدت من هن أسوأ من وضعي.

صور-1.jpg
صور متنوعة لأمير مع أخيه وفي حفل تخرجه من الروضة

أذكر موقفًا أثّر بي جدًا وكأنه رسالة ربانية لي تواسيني، حين أصبح عمر أمير سنة ونصف توجهت للمشفى لإجراء عملية جراحية وكلي أمل أن تنجح، مكثنا عشرة أيام لتجهيز الطفل للعملية، ولكن قبل موعدها بوقت قليل تحدث معي الطبيب أنه لا يفضل إجراءها، خرجت من عنده منهارة أبكي بكل ما أوتيت من حزن وألم، رأتني سيدة وقالت لي بالحرف الواحد "يا بنتي شوفي ابنك بضحك وبلعب، أنا عندي أختي عندها 6 أطفال معاقين، بتتمنى بس يضحكولها، احمدي الله على نعمته". كان ذلك الموقف نقطة تحول كبيرة بالنسبة لي، تعلمت أن أرضى بقضاء الله. لم نيأس أنا ووالده سافرنا إلى مدينة الحسين الطبية، وهناك أجريت العملية بنجاح.

دعمني خلال الرحلة الخاصة جدًا مع أمير عائلتي وأخوتي، وثقتي بالله أن الله لا يقدر لنا إلا الخير، صمدت في معركة الحياة التي اختارتني بحب العائلة ووجودهم بجانبي. كبر أمير بحبنا له، فقد كان طفلًا مختلفًا عن الأطفال، اجتماعي يفرض حبه على الآخرين من أول لقاء، بشوش ضحوك، كان يكبر أمام عيناي وأنا معه تعلمت الصبر والرضا وحب الحياة، وأن أعظم ألم يمكن التغلب عليه بالإرادة.

هذه المحنة منحتني صداقات عديدة، أصبح لي صديقات يهونون علي ليالي المبيت بالمشفى مع أميري، تارة نضحك، وتارة نواسي بعضنا، مرت السنون، كبرت أنا عمرًا فوق عمري، وكبر حبيبي الصغير، عشر سنوات ونيّف أصبح المشاكس أمير، أراه طالبًا متميزًا، محبًا للحياة، واثقًا لا يرى أنه يفتقد شيء عن باقي أقرانه.

استطاع أمير بخفة ظله أن يكسب قلوب معلميه في المدرسة، أحب كرة القدم وأحبته، وبالرغم من أن لديه مشكلة في إحدى قدميه لكن هذا لم يمنعه في الأنشطة الرياضية في المدرسة، لديه إصرار عجيب، مثقفًا يمكنه مناقشة الكبار، شغوفًا بالبحث والاستكشاف. يجب على كل أم أن تؤمن الأم بطفلها، وأن تكون أمانه في هذا العالم، ومصدر ثقته، لا تسمح للخوف أن يتمكن منه أبدًا، وأن تعلمه أن لا للمستحيل والصعب يهون بين يديه إن أراد كما فعلت مع أمير تمامًا.