بنفسج

رحلتي في تركيا.. جرت الرياح كما شاءت سفينتي

السبت 12 سبتمبر

بعد دراستي للإعلام في جامعة النجاح الوطنية، وجدت نفسي أمام العمل، إما في الميدان، أو الالتحاق بالدراسات العليا. وهو في أعماقي حلم لطالما تمنيته وسعيت إلى تحقيقه. كنت أعلم أن الدراسات العليا في مجال الإعلام شبه مستحيلة في فلسطين، لشح التخصصات والخبرات الأكاديمية في هذا المجال. فكان خيار الدراسة في الخارج حلمًا تحقق في النهاية، بنجاح في الوقت الذي زعزعته في البداية أمور كثيرة!

في نطاق العادات والتقاليد في المجتمع الفلسطيني، على الأقل، تأخذ مجريات الحياة الفتاة في الغالب بعد تخرجها من مرحلة البكالوريوس، أو أثناء ذلك إلى بيت الزوجية، ومسؤولية الإنجاب والتربية، وهي مسؤولية وهدف عظيم لا يختلف عليه اثنان، ولا أختلف في هذا الشأن حتى مع نفسي. حيث يستحيل على بعض الفتيات التجميع والتوفيق بين بيوتهن وأحلامهن، يقمن بدورهن ممنونات وسعيدات كل السعادة عن وظيفتهن العظيمة التي يؤدينها في المجتمع.

لن أنكر أنني تزعزعت من الداخل، ولكني ازدت يقينًا عندما جئت إلى هنا، واختلطت بكثير من الأجناس والأعراق، فوجدت كثيرات ارتبطن في غربتهم أثناء دراستهن، والبعض الآخر ساندهن شريك حياتهن قبل الجميع.

أخريات كان لهن أحلام أخرى، ولم تتعارض مع الفكرة الزواج يومًا، استطاعت بعضهن تحقيقها عندما أتين على أنفسهن، وساعدتهن الظروف للتواجد بالقرب من بيوتهن وأحلامهن في الوقت ذاته. ولكن في ظروف أخرى، كان المجتمع، أحيانًا، يحكم على الفتاة بالتخيير بين أمرين بدل الجمع بينهما، فإما أن تتزوجي، أو اذهبي لأحلامك، وتخيلوا معي "اذهبي لأحلامك" بصوت تهكمي يقذف بك إلى طريق مليء بالأشواك، لا استقرار فيه ولا راحة، سينتهي "بالعنوسة" والفشل العاطفي.

عندما أقدمت على التقديم للمنح الدراسية احتوتني عائلتي، واحتوت أحلامي وقراراتي -بحمد الله- رغم أن النساء "حفرن رأس أمي" بالتأويلات التي ذكرتها سابقًا، ناهيك عن إخوتي الذين انتقص البعض من رجولتهم، ولكن، جميعها تكللت بالفشل، رغم أن ألسنتهم اشتدت بعد حصولي على القبول في منحة دراسية مغطاة الكامل للدراسة في تركيا.

على صعيدي الشخصي، لن أنكر أنني تزعزعت من الداخل، ولكني ازدت يقينًا عندما جئت إلى هنا، واختلطت بكثير من الأجناس والأعراق، فوجدت كثيرات ارتبطن في غربتهم أثناء دراستهن، والبعض الآخر ساندهن شريك حياتهن قبل الجميع، حيث وجدت فتيات مرتبطات بالأصل، جئن لإكمال تعليمهن بشكل طبيعي، فالزوجة أيضًا تصبر على غربة زوجها الذي قد يقع في نفس الحالة.

لا إنكار أن الغربة امتحان وخطوة صعبة جدًا، على الفتاة بوجه الخصوص، تبعًا لكونها أرق من الرجل، فما حالها عندما تذهب إلى مكان لا تعرف فيه أحدًا، ولا تحمل حتى لغة تواصل مع أهالي المكان الذي ذهبت إليه. كانت الأيام الأولى صعبة للغاية. تسمع من حولك الأصوات والألسنة تتكلم، ولكن كأنك تسمعها كطنين ثقيل وحسب.

كان يزداد الأمر عندما كنت أحاول التعبير عن ما يختلجني، فيصيبني القهر أحيانًا. ولكن، فيما ما بعد أصبح للأمر متعة ولذة، فبناء اللغة من الصفر وممارستها في ذات الوقت، تعيدك الى مرحلة الطفولة، تحاول شبك الكلمات والأحرف التي تعلمتها لإيصال فكرتك ورسالتك، لتمر الشهور بعد ذلك. وفي عقلي عمليات إنشاء تدور للغة جديدة، ينتهي بها المطاف مزدهرة متمكنة، تجعلني أمشي حولي جاعلة اللغة التي كانت الثقيلة، خفيفة على مسامعي، وكأني ولدت بها.

قد يكون حلمي حلم كثيرات، قد يكون المجتمع عائق، وقد يكون هنالك عوائق أخرى من الصعب التغلب عليها، غير أن القائل بأن الرياح تجري كما تشتهي السفن كان مخطئًا؛ فإنما تجري الرياح كما شاءت سفينتنا.

لا شك اليوم، وأنا أحمل شهادة الماجستير في التلفزيون والسينما، أحتفي بنفسي وبجهدي الذي بذلته ساعات طويلة وليالِ كثيرة على طاولة الدراسة، وفي مكتبة الجامعة، أتقلب المعارف والعلوم بلغات عدة. إحداها تعلمتها من شهور فقط، محاولة أن أتزود من العلم ما استطعت، وحتى أكون على قدر المسؤولية التي حملتها أمام نفسي وأهلي ووطني الذي أنا منه وله وإليه.

ولكن لم تكن العلوم النظرية والأكاديمية هي ما تزودت به هنا، وحسب كانت كل دقائقي علم، حيث فتحت لي تجربة الدراسة في تركيا التعرف على أجناس والأعراق لم أسمع عنها يومًا، لأتذوق طعام هؤلاء، وأرى كيف يلبس أولئك، وأسمع عن تاريخ الآخرين، فأسافر العالم كله من مكاني، ناهيك عن التجارب الشخصية التي تبني الشخصية وتعززها وتقويها، وتمكين بعض الصفات، مثل الصبر، والتحمل، والإيثار، والاحترام، وغيرها.

قد يكون حلمي حلم كثيرات، قد يكون المجتمع عائق، وقد يكون هنالك عوائق أخرى من الصعب التغلب عليها، غير أن القائل بأن الرياح تجري كما تشتهي السفن كان مخطئًا؛ فإنما تجري الرياح كما شاءت سفينتنا.