بنفسج

خِيانةُ أبي لأمّي!

الأحد 20 ديسمبر

كان أبي، ذلك الرجل الهادئ الرصين الذي يهابه الكثيرون من أصدقائه، في الدّين والسياسة، كان رجلًا رائعًا! لطالما تمنيتُ أن يَرزقني الله بزوجٍ مثله حينما أَكبر. كان بطلًا يهتف باسمه شعبه العظيم، أمير قلوب الكثير مِن الناس، إن لم أقل أغلبهم. على الرغم مِن حِدّتِه أحيانًا، ومواقفه المهزوزة قديمًا تجاه أحداثٍ كثيرة، والتي يحاول أصدقاؤه استفزازه بها، إلاّ أنه يبقى ثابتًا. ولَم يَكن كلامهم بالنسبة له، والذي أراه أنا مستفزًا، سِوى ريشة على صخرةٍ كبيرة.

أما أمي، تلك المرأة الصالحة التي يَنحني أمامها أبناء الجيران خجلًا كلّما صادفوها ماشيةً بِوقارٍ في الطريق، وكانت قلّما تخرج، إلا إذا كان لشيءٍ ضروريّ. كانت مؤمنة تقيّة إلى الحدّ الذي يجعلني أنا، كابنة لها، أَهابها كثيرًا، وأخاف أن أَزيغ عن طريقٍ رسمَته لي بإحكام وتوازن، كانت تُسمّيه "طريق الحق". كنتُ لا أزال صغيرةً حينئذ، وكلمة كـ "الحق" كانت أكبر وأعمق مِن قاموسي المحدود آنذاك.

على كل حال، لم تكن لِتَتركني لجهلي، بل تُرافقني في دروسي، أثناء أَكلي الذي تَطبخه بحبٍّ كبير لا يوصف. كانت حريصة على جعلي وقفًا لهذه الأمة، فَلم يَكن هناك مجالًا للتّهاون أو الانسياب وراء الطيش وَالهوى. فَكُلما رأَت في سُلوكاتي نُقصان هِمّة، اقتربَت من أذني بهدوء وردّدَت: لن نصلي في المسجد الأقصى العام القادم إذن! لأنه وكما تعلمين لن يأتينا النّصر إلا إذا انتصرنا على أنفسنا أوّلًا وأَقمنا فيها شريعة الله.

عزيزتي، سئمتُ مِن الضغوطات التي تأتيني، على شكل تملّق ودعمٍ مُنمّق لي ولسياستي في البلاد، أُبَشِّركِ بأنهم وعَدوني بامتيازاتٍ كثيرة. كأن يُسلّمونني قطعةً مِن أرضي المَسلوبة، ويَعترفون بسيادتي عليها.

لَكَم كانت كلماتها الثابتة تزلزل قلبي الذي يتحرق بشوقٍ لصلاةٍ في مسجدٍ وطئه أنبياء الله ورسله! فتُعيد هِمّتي وتجدد عهدي مع الطاعة بهذا الكلام. لا تلوموا إطنابي في الحديث عنها، فهي الأم المربية، الداعية إلى الخير، وتتقفّى أثر الصحابيّات بكل صِدقٍ وإخلاص.

ذات يوم، في ليلة دهماء خانِقة، قرر أبي أن يترك لأمي رسالة بشكلٍ استثنائي. كان الوضع غريبًا بالنسبة لأمي، لأن أبي لم يكن يُحب الكتابة كثيرًا، وعلاقته مع القلم والورقة لم تَكن جيدة. لم تَستغرب أمي الحبيبة الرسالة المكتوب عليها: "إلى فلانة". بل ما زاد استغرابها، تلك الورود ومكعبات الشوكولاتة، بجانب الرسالة، ذلك أن أبي على الرغم من جماله الداخليّ ونقاوةِ روحه، لم يكن رجلًا رومانسيًا (بالمفاهيم المتعارفة).

فتحَت الرسالة بتردد: "عجوزي الجميلة التي لا تزال تحافظ على نظارتها رغم قساوة ظروفٍ عاشتها ولازالَت، أُدرك استغرابكِ لتصرفي الدخيل على حياتنا المليئة بالحب والاطمئنان، الخالية من التّكلُّف والتقليد الأعمى. قررتُ بأن أَتصالح مع الماضي، وأَعقِد اتفاقية سلامٍ مع مَن تَدعين الله بزوالهم في كل صلاة. فكرتُ كثيرًا وقلت: كفانا حروبًا، ألَم يحِن وقت السّلام؟

عزيزتي، سئمتُ مِن الضغوطات التي تأتيني، على شكل تملّق ودعمٍ مُنمّق لي ولسياستي في البلاد، أُبَشِّركِ بأنهم وعَدوني بامتيازاتٍ كثيرة. كأن يُسلّمونني قطعةً مِن أرضي المَسلوبة، ويَعترفون بسيادتي عليها. لكِ أن تفرحي الآن بعد أن تمّ هذا الاتفاق، وتَطمئِني لحكمهم الذي سيكون عادلًا إن شاء الله".

سقطت أمي مَغشيًّا عليها بعد أن أتمّت قراءة تلك الرسالة بصعوبة بالغة. وحينما استيقظت، وجدَت نفسها في المستشفى، محاطة بطاقم أطباء، وأبي على رأسهم يبتسم لها. أشاحت بوجهها عنه، ثم عادت لتُركز نظرها عليه مرة أخرى. طلبت منه التراجع، ومُقلتَيها مليئتان بالدموع، لكن أبي كان قد قرر حينها ووقّع اتفاقية الخيانة، ولم يكن يعلم آنذاك بأنه سيوقع في نفس الوقت على ورقة طلاقه من أمي.

أبي لم يكون سوى وطني المغرب، أما عن أمي، فهي تلك الأنثى الثكلى "فلسطين" الحبيبة التي حفظها الله، وتولّى رعايتها، لقرون مِن بطش الصليبيّين ومؤامرات المغول. والآن مِن تَكالب أغلب حُكّام الدول المسلِمة. والتطبيع مع كيانٍ صهيونيّ، بشكلٍ قذِر ومستفز لمشاعرَ المسلمين.

تَبخيس تضحيّات ما يزيد عن الأربعة آلاف أسير الذي يقبعون داخل زنازين العدوّ، وهَدم جسر الأمل على رؤوس الأُسر المكلومة على شهدائها. شتّان بين مَن يخدِم مُقدّسات المسلمين باستعانة بالله وبسَالة، ومَن يتوهّم نصرًا بعد أن وضع يده في يد عدوٍّ غاصِب، مُحتل.

إذا كان الله -جلّ في عُلاه- غاضبٌ عليهم إلى يوم الدّين لتكبّرهم على الحق وجحودهم، مَن أنتَ لِتَعقِد سلامًا معهم؟ هل تعتقد يا غارقًا في بحر النفاق والرياء أنّ القُدس تحت حمايتك أنت؟ لا والله! هي لله وإليه راجعة مرةً أخرى على يد بطل جديد كالناصر الأيوبيّ.