بنفسج

زفة على الحاجز: جنان عروسًا بعد 18 عامًا من الانتظار

الأربعاء 30 سبتمبر

تقف أمام نافذتها الشاهدة على دموعها طوال ثمانية عشر عامًا، تلمع عيناها بلمعة مختلفة، ويبتسم قلبها حبًا وحماسًا لما هو قادم، تفكر بثوبها الأبيض، هل تختاره مزركشًا أم بسيطًا؟ هل تضيف عليه سنوات الصبر أم تكتفي بلحظات الفرح الأخيرة؟ كيف سيبدو منزلهما؟ هل ستختار نوافذه مشرعة على شجرات الزيتون التي روتها بالأمل؟ أم ستغلقها على شجرة الصبار التي روتها في سنين عجاف! كل هذه الأسئلة تدور في ذهن جنان التي بدت كفراشة برية تطير بلطف هنا وهناك، تارة تلقي نظرها على حبيبها ورفيق دربها، لتعوض سنين الحرمان من اللقاء، ولتحفظ عن ظهر قلب، التجاعيد الجديدة التي خطّت في وجهه إثر السنين، وتارة أخرى تتجهز لزفافها وتفكر في شكله المنتظر الذي حلمت به طوال السنوات الماضية، فخطيبها الذي حُرمت منه أمامها وجهًا لوجه، حرًا طليقًا الآن. لم يكن انتظارًا لعام أو اثنين، بل قرابة العقدين!

"جنان سمارة"، خطيبة الأسير المحرر "عبد الكريم مخضر" الذي اعتقلته قوات الاحتلال "الإسرائيلي" بعد ثلاثة أشهر من خطوبته، وحرمته من إتمام حفل زفافه، يعود لأحضان الوطن والحبيبة، ليكون العرس عرسين، عرس التحرر، وعرسه على رفيقة الدرب التي آمنت بفوز الحب دائمًا.

| حين هوى القلب

 
 
"جنان سمارة"، خطيبة الأسير المحرر "عبد الكريم مخضر" الذي اعتقلته قوات الاحتلال "الإسرائيلي" بعد ثلاثة أشهر من خطوبته، وحرمته من إتمام حفل زفافه، يعود لأحضان الوطن والحبيبة، ليكون العرس عرسين، عرس التحرر، وعرسه على رفيقة الدرب التي آمنت بفوز الحب دائمًا.
 
كانت جنان تعلم علم اليقين أن مصير عبد الكريم الاستشهاد أو الاعتقال قبل خطوبتهما، ولكنها قبلت به لخلقه الرفيع، وكانت مقتنعة جدًا به، فهو رجل نضال منذ صغره، خطوبتهما التي استمرت لثلاثة أشهر كانت أجمل أيام في حياتها.
 

جنان الصبورة، ابنة العشرين كانت حين أهداها خطيبها الأسير المحرر أول هدية، والتي كانت عبارة عن "تنورة وبلوزة"، كانت ترتديهما دومًا حتى قيل لها "أي هوا فش غير هاللبسة"، تحبها لأنها هديته هو، فكل شيء منه فائق الجمال. عمر الهدية ما يزيد عن ثمانية عشر عامًا، وما زالت تحتفظ فيها وسط ملابسها، وحين تراها تنظر إليها وتبتسم. وفي كل مناسبة تذكره بها "ذاكر هديتي اللي جبتها وإحنا صغار".

كانت جنان تعلم علم اليقين أن مصير عبد الكريم الاستشهاد أو الاعتقال قبل خطوبتهما، ولكنها قبلت به لخلقه الرفيع، وكانت مقتنعة جدًا به، فهو رجل نضال منذ صغره، خطوبتهما التي استمرت لثلاثة أشهر كانت أجمل أيام في حياتها.

بصوت يطغى عليه الفرح والحب وهي تحدث من حولها عن حماسها، وبأمل كبير بما هو قادم، في ليلة الإفراج عنه، لم تنم جنان مطلقًا، انتظرت بزوغ الفجر كطفل ينتظر صباح العيد، حين خرجت من منزلها لم تترك النظر للساعة، وهي تردد متى سنلتقي، تمنت أن يطير الوقت بسرعة البرق، كل دقيقة تسأل "قديش ضايل"، حتى لمحته من بعيد، فطار قلبها له".

وأخيرًا، بعد العذابات وسنين الوجع التي نخرت في القلب وتركت علامة لا تندمل بمرور الزمن، سيأتي وقت اللقاء ليتعانق القلب بالقلب، على الحاجز الشاهد على كل الحكايات، ولحظات الفرح بعد غياب، الحاجز الذي رأى دموع الحزن في عيون الأحبة، لربما البعض لا يعرف معنى كلمة "الحاجز" من غير الفلسطينيين، هو عبارة عن نقطة تفتيش عسكرية للاحتلال الإسرائيلي يلقى الفلسطينيون عليها أبشع أنواع الإذلال. التقى الحبيبان، بعد مرار الانتظار ولوعته، تزينت له باللون الأحمر، وعلى يديها الورود لتهديها للحبيب، ركض نحوها وركضت نحوه، في لحظة هوى القلب من فرط سعادته، وأبكوا كل من شهد اللقاء.

جنان التي لم يتحمل قلبها فرحة اللقاء، انخفض ضغطها من فرط حماسها وحبها وشعرت بأن العالم يدور من حولها، وبعد الركض والعناق الطويل، وقفت تنادي يا إيهاب يا إيهاب، واستندت على أخيها خوفًا من أن تفقد وعيها من سعادتها بعد سنوات عجاف، حُملت على الأكتاف، ولم تستطع إبعاد نظرها عن حبيبها الأبدي، حبيب السنوات الماضية والآتية، وهو كذلك. منذ أول لحظة من خروجه يقول "كل شي متغير، إلا أنتِ يا جنان".

سار العريس في زفة مهيبة على أنغام الزغاريد والمهاهاة الفلسطينية، ينظر لجنان تارة، ثم لوجوه الأحبة تارة أخرى، ثم يرفع نظره للسماء متمنيًا أن يرفع كفه ليحتضنها، يا ترى لأي مكان سيذهب أسير تحرر لتوه من أسره؟ بالتأكيد سيروي عينيه بالمنزل الذي سيقطن فيه مع رفيقة الدرب الأبدية، جهزته جنان بيديها، كل لون، كل قطعة من اختيارها، وحين رآه، انبهر وظل يردد "رائع رائع"، بدا واضحًا في صوت جنان فرحتها وهي تخبرنا عن ردة فعله، أرأيتم ابتسامة تُسمع، كانت العروس البهية تبتسم كأنها لم تفرح من قبل أبدًا، كيف لا وهذه الفرحة التي طغت على كل ما حدث في حياتها من وسيحدث.

لو أن الجدران في منزلهما تتحدث كانت ستقول إن الحب القابع في قلوب الحبيبان عبد الكريم وجنانه أعظم ما رأت، بيت بُني على صبرهما، كل زاوية ستشهد على ما سيرويه الرفيق لجنان، سيقول له عن عذاباته بالأسر هو ورفاقه، وعن حبه الكبير لها، وامتنانه لصبرها طوال العقدين الماضيين، لن ينسى شيئًا مما حدث له في المعتقل، لأنها أشياء أكبر من أن تمسح في يوم، سيغادر الجميع فرحين، وعبد الكريم سيذكر كل لياليه القاسية التي كانت تؤنسهما جنان والأحبة كلهم.

| يا حظ أكتوبر

جناان.jpg

وفي تخطيطهما لليوم المرتقب والذي تأجل لثمانية عشر عامًا، كانا فرحين بكل الازدحام من حولهما، فاسترقت جنان من الزمن ساعات لتترك عبد الكريم وحده مع رفاقه، وتذهب لتختار ثوب زفافها التي حلمت أن ترتديه لحبيبها، أرادته أن يكون بسيطًا، خاليًا من الزركشات، وكلها أمل أن يكون يوم زفافهما في الثاني من أكتوبر أجمل يوم لها على الإطلاق، وأن تعيش حياة هادئة على عكس العقدين الماضيين الذي غرقت فيهما بالقلق والحزن.

أينسى المرء هدايا المحبوب أم يضعها في مقلة العين؟ هكذا كانت جنان تخبء كل هدية من الحبيب في قلبها، عبد الكريم أهدى جنان صندوقًا مطرزًا وهو في السجن وما زالت تحتفظ به بين هداياها المفضلة، هديتها كانت عبارة عن مسبحة كل خرزة فيها عبارة عن حرف من اسمها، في علبة مطرزة على شكل قلب، كانت تضع فيه صورهم سويًا، ولكن الآن ستضع فيه الحلي ليلبسه إياه يوم العرس المنتظر.

سينال شهر أكتوبر حظ جمع المحبين في بيت واحد، وعلى الرغم من أيلول الذي يكرهه عبد الكريم، يحاول عقد معاهدة صلح معه إلا أنه اختار بداية أكتوبر ليوم زفافه، وسر كرهه لأيلول، هو اعتقاله لمدة عامين فيه، وفي المرة الثانية اعتُقل في ذات الشهر، وتوفي والده أيضًا، ولكن الآن سيحبه بعدما أهديت له الحرية فيه من جديد.

ما زالت جنان تحتفظ بكل رسالة وصلتها من عبد الكريم خلال الثمانية عشر عامًا الماضية، تحفظ كل سطر ولا ولن تنساه، كان يكتب لها على رأس كل رسالة "ولكم في القلب ذكرى"، سيجلسان سويًا فيما بعد لقراءة كل ذكرى وردت في كل ورقة، سيذهبان للتنزه في البلاد تحت أشجار الزيتون والبرتقال. 

الأسير الذي قبع خلف الأسوار اللعينة لسنوات عديدة، كان يحلم دائمًا بلحظة الحرية، ليحلق مع حبيبته في السماء ويفتح ذراعيه للحياة، وبالرغم من جرح عبد الكريم الغائر الذي تسبب به السجان البغيض، إلا أن عاش بالأمل وسيعيش، في دفتر أمنياته يخطط للمستقبل مع جنانه، أعطاها وعدًا بأنهما سيذهبان للعمرة سويًا، وأيضًا سيغادران البلاد ليكمل الدكتوراه خارج البلاد، فقد نال شهادة الماجستير من جامعة القدس - أبو ديس وهو في المعتقل، كان يخبر جنان أولًا بأول خلال لقاءاتهما من وراء الزجاج عن مستقبلهما وخططه التي يرغب بتنفيذها، ويسأل عن أخبار الحياة خارج الأسر.

ما زالت جنان تحتفظ بكل رسالة وصلتها من عبد الكريم خلال الثمانية عشر عامًا الماضية، تحفظ كل سطر ولا ولن تنساه، كان يكتب لها على رأس كل رسالة "ولكم في القلب ذكرى"، سيجلسان سويًا فيما بعد لقراءة كل ذكرى وردت في كل ورقة، سيذهبان للتنزه في البلاد تحت أشجار الزيتون والبرتقال. وسيخبرون أبنائهما بحكاية كل رسالة وكل هدية، وويلات الانتظار لما يقارب العقدين، وجبروت الاحتلال وظلمه، سيعلموهم أن النضال ومقاومة الاحتلال ليست تهمة، بل وسام شرف يُقلد به الشجعان.