بنفسج

هل كانت الأوطان إلا راحة للمتعبين؟

الأربعاء 17 فبراير

لم أعتد أن يمضي يومي دون أن أسمع هذه الجملة، إن كانت على شكل نشيد، أو حتى أن أردّدها بيني وبين ذاتي، وكأني أؤنس نفسي في هذه المقولة حين يرهقني الوطن، أتفكر كثيرًا: هل كان الوطن راحة فعلًا أم أنه بات الراحة المتعبة أو أنه التعب المريح!! لا بل يمكن أن يكون التعب المغلف بالراحة، وكأننا نمني أنفسنا أن هناك راحة في هذه الدنيا.

بدأت حكايتي مع الوطن حين تمنيت وأنا طفلة، زيارة مدينة جميلة مثلما أشاهد على التلفاز، كنت أظن أن الوطن كله خرابٌ، إلى أن عرفت أننا نسكن في شقِّ الوطن، رأيت صدفة صورة لمدينة حيفا أو يافا؛ فأنا قديمًا لم يكن لدي قدرة على التفريق فيما بينهما، جمعتهُما حروفٌ متشابهة ونكبة ونكسة واحتلال.

منذ ذلك الوقت، وأنا أعرف أننا في شقّ الوطن، فبت أحب شِقّه الثاني، وكأن كل ممنوع لدينا مرغوب، فكيف حين يكون بهذا الجمال. يشدنا ذاك الوطن، بل يغرينا، وكأنه يوسُف بالجمال يخاطبنا، وكأننا امرأة العزيز نقول له: "هيت لك" كلنا نذوب فيك جمالًا. أعود لذات المقولة، لأتيقن أن الراحة تكمن في الخيال فقط، فنحن الذين حُرِمنا رؤية الجمال بأعيننا، ها نحن نتذوقه حسرةً في قلوبنا، فنردى أسارى لتلك الجنة.

حين كبرت، عرفت أن الوطن لم يقسم شقين فقط، بل بات في كل زاوية شق، وباتت فلسطين تمثل فلكًا كبيرًا في قطعة صغيرة، يفصل كل قسمٍ منها حاجز ومحسوم وكثير من الغربة شكلتها تلك الحدود، وبات الحاجز الأكبر، الكره الذي يولد فيما بين أبنائه حتى رأينا الانقسام حاجزًا أيضًا.

يباغتني خيالي بفكرةٍ أخرى، بما أنّ الوطن راحةٌ للمتعبين: لماذا نمضي فيه ونرى الشّقاء في عيونِ أصحابه، حاول أن تمشي في أحد شوارعه، ستجد " ولو كنت في الصيف " أن الشمس لم تطلع بعد، فهي إلى الآن حبيسة خذلان تذوقناه منذ أكثر من نصف قرن. حين كبرت، عرفت أن الوطن لم يقسم شقين فقط، بل بات في كل زاوية شق، وباتت فلسطين تمثل فلكًا كبيرًا في قطعة صغيرة، يفصل كل قسمٍ منها حاجز ومحسوم، وكثير من الغربة شكلتها تلك الحدود، وبات الحاجز الأكبر، الكره الذي يولد فيما بين أبنائه حتى رأينا الانقسام حاجزًا أيضا.

ترى ساكنًا في الخليل يحتاج لسفرٍ طويل ليرى الناصرة أو عكا، إن سُمح له بتصريح من جهة الاحتلال. وغزة التي لم ترَ النور منذ سنواتٍ طويلة، كيف لها أن ترى الخليل أو الناصرة ! بعد تفكير طويل، أعود الى أنّ الأوطان راحتنا بعد كل هذا الحديث، لأجد أنه ما كان الوطن يومًا راحة لنا: أيكون هو الذي سجن أبناءنا وأطفالنا ورمل النساء؟ أهو الوطن الذي قتل كلّ طاقة داخلنا؟ أهو الوطن الذي سلبنا شغفنا وأحلامنا؟ من جعل الاحتلال احتلالاتٍ كثيرة؟ الوطن الذي يبكيك صباحًا ومساء لم يكن وطنًا يومًا، الوطن الذي يجعل الطفل كهلاً بعمر الورد، هو الذي يروي حكاية بؤسٍ طويلة ابتدأت بابتداء الوطن ولم تنته بعد.

في خضمِ هذه الخاطرة أجد نفسي قد ظلمتُ نفسي وظلمت الوطن، ساذج من ظن أن الوطن يجب أن يطعمنا الشهد ليكون وطنًا، وساذج أيضا من رأى أن التعب في هذا الوطن لم يكن راحةً يومًا، وفاقدٌ للصواب أيضًا من رأى من الوطن التراب، الوطن فكرةٌ تحيا عليها فتحييك، الوطن ما كان يومًا صعبًا إلا بسبب من سلبه، هو لم يهن بل من خذله أهان، يكفي أنه وصية من رب السماء لنا لنبقى فيه على رباطٍ دائم نحيا به، وبكل لحظة ثبات ننال به الأجر العظيم.

 الوطن قدسٌ تنسى كل ظلم العالم حين تلمعُ قبتُّها بين عينيك، فتجد في تاريخها رائحة العزة والانتصار، أوطاننا ما أتعبتنا يومًا، بل هم من يسعون لأن ينفرونا بهذا التعب منها، وها نحن نقاوم كل ذاك لنكون خير أمةٍ ثبتت وصمدت، فانتصرت، الوطن تاريخ عظيم لن يسلبوه ببعض تزوير أو تمويه، هو أرضٌ وسماء، حصارٌ وصمود، فرحٌ يمسّنا ببشرى نصرٍ، وحزنٌ يصيبنا لأجل رباط.

لا تلم الوطن على ما فيه، بل لُم من باع وخذل وسرق، لُم من ترك هذه الجنة لمن يعيث فيها فسادًا وخرابًا. إنها الأوطان نكبر بها وتكبر فينا، ننعتها بأنها الوطن فلنعطها لتعطنا وننصرها لتنصرنا، الوطن فكرة وملجأ، الوطن مخيمٌ ثبتنا فيه فعرفنا حقيقة أنفسنا، وأننا سنكون يومًا رغمًا عن كل من حولنا، الوطن ظلمٌ نقاومه فنصمد، بذلك نتذوق حلاوة أمرين: حلاوة الجهاد، وحلاوة وعد ربنا بإذنه تعالى. ما كانت الأوطان يومًا إلا أنفسنا وأرواحنا، إن أكرمناها أكرمتنا، وإن بذلنا لها فدتنا، وإن انتصرنا لها نصرتنا. ما نحن إلا أجسادًا تمضي لترى نور الآخرة، وما هذا التعب إلا راحةٌ بها، لو فكرت فيها لوجدت أن الأوطان فعلا "ما كانت يومًا إلا راحة للمتعبين".