بنفسج

الدبكة الفلسطينية: قبس من روح الوطن وأداة مُقاوِمة

الأربعاء 27 يناير

على عزف الموسيقى الفلكلورية الشعبية يلوّح الدبيّكة بطرف الكوفية الفلسطينية، ثم ما يلبثون إلا وتتشابك أيديهم وتهتز أكتافهم، ثم تروح أقدامهم وتجيء يُمنةً ويُسرة تضرب وجه الأرض؛ في رقصة تنطق باسم فلسطين في كلِ حركاتها وسكناتها وموسيقاها وكلمات أغنياتها المستوحاة من حُب البلاد وشذرات ترابها. إنها الدبكة؛ إرث فلسطين التي عرفت في الداخل والشتات كقبس من روح الوطن.

| هُوية وحضارة

دبكة 10.png
تصوير محمد فراج

إنّ للدبكة جذور وبصمة في صناعة الهوية الفلسطينية، تحدّث عنها الخبير في التاريخ الفلسطيني، د. ناصر اليافاوي لــ "بنفسج" قائلًا: "هي عبارة عن رقصة دينية في الأساس تعود أصولها إلى الكنعانين الذين كانوا يؤدون الرقص كشكل من أشكال الصلاة والتقرب من الآلهة، ومنها؛ إله القمر الفلسطيني الذي سُميت بعض المُدن باسمه تقديسًا له، وكان الكنعانيون عندما يبزغ القمر يصطفون على شكل هلال ويقوموا بصفقات مرتبة وتدريجية، يقدمونها كرسالة إلى إلههم؛ ليرضى عنهم وليكون محصول العام وفيرًا".

ومن تلك الرقصات أيضًا -وفق اليافاوي- رقصة كان يؤديها الصياديون الفلسطينيون على شاطئ بحر يافا وغزة الذين عرفوا أقدم الحضارات في العالم، وسميت أغنيتها بـ "ليه صا" بمعنى إله الصيد، وكانوا يقومون بها باعتبارها نداء لإلههم الذي يأخذ رأس إنسان وشكل سمكة؛ وهي عبادة دورية أسبوعية. بالإضافة إلى رقصة خسوف القمر الذي كانوا يعتبرونه حدثًا مقدسًا، ويعتقدون أن حوتًا في البحر قد ابتلع إلههم "القمر"، فكانوا يغنون له بكلمات تدعو إلى أن يتركه.

كذلك هناك صلاة الاستسقاء التي كانت تؤدى عبر رقصة واحدة، لها أبعاد شرقية، وأيضًا رقصة عصير العنب التي كانت تتم في الخليل، المعروفة بعنبها الأسود ذي الحبات الكبيرة. وفي موسم قطاف العنب كانوا يعصرونه نبيذًا يُصدّر إلى كل العالم، وخلال عصره يؤدون رقصة تُعبر عن حضارة فلسطين، وأصالتها التي توجد فيها أقدم حضارات العالم.

دبكة 7.jpg
تصوير محمد فراج

ويؤكد د. ناصر اليافاوي أن هذه المواسم والرقصات والعبادات هي التي شكّلت حضارة فلسطين القديمة، ومنها انبثقت الدبكة الفلسطينية التي تستوحي كلمات أغانيها من واقع فلسطينيّ بحت. ولكلماتها بُعدان اثنان، يوضحهما قائلًا: "الأول؛ جفرا وهي ترمز إلى الفتاة الجميلة التي ينادي عليها محبوبها بهذا الاسم الذي يُشير إلى معنى العنز البيضاء الجبلي الجميل، أو أنثى الغزال ذات العيون الفاتنة، والثاني؛ دلعونا وهو مشتق من اسم "عناة"، وهي ابنة الإله "أيل"، إله الخصب والحب والحرب عند الكنعانيين".

وسُميت الدبكة بذلك إشارة إلى خبطة القدم واهتزاز الأرض التي يصدر عنها صوت يصل السماء من باطن الأرض، له علاقة بالقمر، بحسبِ ما أكد اليافاوي الذي أفاد أن أصول الدبكة بكلماتها ورقصاتها وحركاتها؛ مستوحاة من لباس رجل الدبكة المتمثل في القمباز الفلسطيني القديم، والمخطط بلون الكوفية الفلسطينية التي يرتديها، ويُشيح بمحرمته ويرتدي حذاء الفلاح الفلسطيني. كل ذلك بحسب اليافاوي، يدلل على أن هذه الرقصة علامة فلسطينية بامتياز، انتقلت من فلسطين إلى بلاد الشام فيما بعد.

وفي مرحلة متقدمة عن ذلك، أصبحت الدبكة تُمارس في الأعراس والمناسبات السعيدة تعبيرًا عن الفرح بذكر مناقب العائلات والقبائل في الزجل والمواويل الغنائية، وغدت تُمثل تراثًا فلكلوريًا لأهل فلسطين التي يصطف شبانها وفتياتها كتفًا إلى كتف، يرقصون ويغنون الدلعونا والميجانا بكلماتها المستوحاة من عشق الأرض وخيراتِ الزرع والمطر، والغَزل في جمال المحبوبة ومحاسن المحبوب. وفي البدء، كان للمرأة أهازيجها وغناؤها فقط، ثم سرعان ما انضمّت لتكون رُكنًا أساسيًا في الدبكة.

| أداة مُقاوِمة

استمرت هذه الرقصة الشعبية فنًا يُعبر عن حالة من الفرح حتى حُلول النكبة الفلسطينية، وسرعان ما تم دمّجها في الحياة النِضالية بابتكار أغانٍ تحث على الدفاع عن الوطن حتى أصبحت أحد أساليب المقاومة الشعبية السلمية، وصارت جزءًا لا يتجزأ من الغنّاء الوطني، تحث الشباب على الدفاع عن الوطن، وتمتدح المدن والبلدات من شمال فلسطين حتى جنوبها، وتذكر أصالة الدم الفلسطيني متمثلًا في شهدائه وجرحاه.

ومنها: "جفرا؛ وهي يا الربع، وطير الحب الشادي، يغني للسما الزرقا، فلسطين بلادي، ويقول القدس الحرة، تحرم ع الأعادي، حيفا ويافا وعكا والضفة الغربية جفرا ويا هالربع ربع المراتينِ، شلال ينبع نبع دمّ الفلسطيني". وكذلك: "يا أرض بلادي يا بعد روحي عنك ما أتنازل والله وما بروح، ع ترابك باقي وما أرحل من هونا، ولو قطعوني وما داوو جروحي".

دبكة.jpg
تصوير محمد فراج

وإن للدبكة أصولاً وقواعدَ وأنواعًا عديدة نتجت بطبيعة الحال عن التنوع الجغرافي والثقافي الفلسطيني، وفقًا لمدير فرقة "العائدين" للدبكة الشعبية، عيسى أبو جراح الذي قال لــ "بنفسج": "تتنوع أشكال الدبكة التي يستخدم فيها المجوز واليرغول والشبابة والطبل، من الوحدة ونص، الشمالية، الدلعونا، الدرازي، الشعراوية، الطباسية، الطيّارة، زريف الطول، والدّحية البدوية".

وتختلف هذه الأنواع في حركاتها وإيقاعها، فالوحدة ونص يقفز فيها الدبيكة قفزة بسيطة بالرجلين ويخبط واحدهم خبطة بسيطة باليمين، ثم بالقدم الشمال، حتى تصبح الأرجل شكل خبطة واحدة. أما "الشمالية"؛ فمعروفة بأنها تبدأ وتنتهي بالقدم اليسار، وتدبك على أنغام المجوز واليرغول وتحتاج لياقة بدنية عالية كونها تتميز بحركاتها السريعة، وتدبك مع رفع الأيدي على الأكتاف، وتتفق معها "الشعراوية" بالإيقاع التي تدبك بشبك الأيدي على أنغام اليرغول، أما "الدلعونا"؛ فهي ذات إيقاع متوسط، فيما تستخدم زريف الطول في الغزل بالأفراح والمناسبات الأخرى.

دبكة 11.png
تصوير محمد فراج

وتختلف "الدحية" عن معظم الأنواع؛ فإن لها تأصيلًا فلسطينيًا بدويًا مختلفًا، ولكنها تُكمِل الدبكة في هيئتها، وتُستخدم فيها كلمات بدوية لا يفهمها الكثيرون، وتعتمد على التصفيق وهزّ الأكتاف. فيما تُشبه "دبكة العسكر" المشية العسكرية، حيث تتم برفع الأيدي على الأكتاف، وتعتمد على الطبلة في أدائها. أما "الدرازي"، فتُدبك على أنغام المجوز بحركات هادئة وبطيئة، وأخيرًا، "السبعوية" التي تُقرع فيها سبع قرعات تنتهي السابعة بالقدم اليمين.

إن انتشار الفرق الخاصة بالدبكة الفلسطينية بدأ ينمو في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي في داخل فلسطين والشتات، وفق ما يوضح رئيس مجموعة جذور للفن التشكيلي، فايز الحسني، لـ "بنفسج"، أنَّ هذا الفن الفلكلوري أصبح يُشير بالبنان إلى فلسطين؛ هويتها وتاريخها وحضارتها، متمثلًا بالدبكة والطرب والفن والرقص الشعبي في كل أرجاء العالم، وأصبحت تخرج الفرق من الداخل المحتل والضفة الغربية متمثلة بمدنها وقراها، وكذلك غزة ومخيمات الشتات.

| محاولات مُصادَرَة

 
 
أصبحت الدبكة تُمثل فلسطين في المحافل الدولية، هادفةً لبث الروح الوطنية والتعبئة من أجل نصرة القضية، وتأكيدًا على عروبة فلسطين والانتماء للوطن والثورة والشرعية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال.
 
ومن هنا، بدأت تتسلل بقوة محاولات الاحتلال الإسرائيلي الشرسة في سرقتها كل يوم ونسبتها إليه، من خلال ترجمة أغاني الدبكة إلى العبرية بما فيها رمزيتها وأسماء قراها ومدنها وسرقة ألحانها. المجتمعات المحافظة كانت ترى في الدبكة نوعاً من الرقص والاختلاط يُنافي المُثل الدينية المُلتزمة.
 

ولكنها بدأت حديثًا  لإنشاء فرق خاصة بالدبكة الشعبية تكون فرقاً شبابية ذكورية منفصلة عن النساء أو العكس، مُجمعةً على دور هذه الرقصة الفلكلورية المهم في مقاومة الاحتلال، والإشارة إلى الهوية الفلسطينية في كل الميادين.

أصبحت الدبكة تُمثل فلسطين في المحافل الدولية، هادفةً لبث الروح الوطنية والتعبئة من أجل نصرة القضية، وتأكيدًا على عروبة فلسطين والانتماء للوطن والثورة والشرعية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. ومن هنا، بدأت تتسلل بقوة محاولات الاحتلال الإسرائيلي الشرسة في سرقتها كل يوم ونسبتها إليه، من خلال ترجمة أغاني الدبكة إلى العبرية بما فيها رمزيتها وأسماء قراها ومدنها وسرقة ألحانها.

وأكد الحسني على وجود جهود فردية من الفِرق وشبه رسمية تدعم الدبكة؛ من خلال تنظيم الفعاليات الفنيّة في الخارج، والعمل على تكثيفها في الداخل، مشيرًا إلى وجود إجماع فلسطيني على ضرورة الحفاظ على الفلكلور الشعبي والدبكة بما تشمله في موسيقاها وألحانها، مبينًا أن التنظيمات الإسلامية بدأت مؤخرًا تدعم وتسعى بقوة إلى إيجاد فرق فنية للدبكة، وكذلك مدارس خاصة بتعليمها وليس فقط أدائها، وقد أصبحنا نرى لتلك التنظيمات عروضا خاصة بها في مُختلف فعالياتها، ولكن الأمر لا يمنع تمسكها بفكرة منع الاختلاط بين الجنسين.

دبكة 1.jpg
تصوير محمد فراج

يُذكر أن المجتمعات المحافظة كانت ترى في الدبكة نوعًا من الرقص والاختلاط يُنافي المُثل الدينية المُلتزمة التي تجد في الاختلاط والموسيقى والرقص انتهاكا لخصوصية الالتزام الشرعي، ولكنها بدأت حديثًا وفق الحسني، تتوجه إلى ضرورة إنشاء فرق خاصة بالدبكة الشعبية تكون فرقًا شبابية ذكورية منفصلة عن النساء أو العكس، مُجمعةً على دور هذه الرقصة الفلكلورية المهم في مقاومة الاحتلال، والإشارة إلى الهوية الفلسطينية في كل الميادين.