بنفسج

من يجيب أسئلتك الخاصة؟ عن فتاة يعتلي رأسها قبعة!

الأربعاء 17 مارس

أطلّ من نافذة الذاكرة على سنواتٍ مضت، لأرى منها تلك الفتاة الصغيرة، متعثّرة الخُطى، مُضطربة النبض، شائحة النظر هنا وهناك، تبحث عن والديها بعد أن وجدت نفسها محاطة بعددٍ هائلٍ من الطلبة والمعلمات وسط طابور الصباح لأول يوم في المدرسة. يالروعة تلك الذكريات ودفئها، ويالغرابة هذه الحياة، كيف تغيّرنا وتصقل شخصياتنا بمواقفها وظروفها، من يصدّق أن تلك الفتاة الصغيرة تعتلي رأسها قبعة التخرّج، ليس بعيدًا عن منزلها والوجوه التي ألِفت فحسب، بل بعيدًا عن أرضها وموطنها.

وصلت إلى مصر قبل ٨ سنوات، والتحقت في الثانويّة الأزهريّة، مضت السنوات سريعًا، ونجحت في الثانويّة بمجموع يؤهّلني للالتحاق بأيّ جامعة أريد، فكانت كل الخيارات متاحة لي، لأجد نفسي أمام السؤال المصيريّ الذي يواجه كلّ الطلبة: أيّ كلية هي الأفضل لي؟ وجدت كل الرغبة في قلبي تتّجه تلقائيًا نحو هدفٍ لطالما وضعته أمام عينيّ منذ سنين، وهو الالتحاق في كلية الصحافة والإعلام، فهذا حلمي منذ الصغر، وتحديدًا منذ أن بدأت باكتشاف موهبتي في الكتابة، والتي نميّتها بحبي الكبير للقراءة منذ الطفولة، ولم أكن أُجيد الكتابة فحسب، بل كنت حقًا أحبّها.

| تغيير المسار

نيرمين.jpg
حفل تخرج نيرمين بستوني

إلى الآن، لا أنسى معلمة الابتدائية وابتسامتها بعد كل موضوع تعبير أكتبه، وكم كانت تُثني على أسلوب كتابتي ولغتي، وهي أول من تنبأ بمستقبل رائع لي. وفي مختلف المراحل الدراسيّة، كان يزداد تأكّدي من رغبتي في الالتحاق بكلية الصحافة والإعلام، خاصة بعدما كَبُرت ونضج تفكيري، وأصبح لديّ اطلاعًا واسعًا على العديد من القضايا، كنت أشعر دائمًا أن لديّ الكثير لأقوله والكثير الكثير لأكتُب عنه.

إذن، هل سارت الأمور على ما يرام؟ ولطالما كانت الرؤية واضحة أمامي، هل كان اختيار الكليّة خطوة موفّقة بالنسبة لي؟ لا للأسف، فبعد كل هذا الذي ذكرته، وبعد حبي الكبير، وانتظاري للالتحاق بكليّة الصحافة والإعلام، وقعت بالفخ، فخ كليّات القمّة، رغم أن كليّة الصحافة والإعلام تُعتبر من كليّات القمّة، لكن فخ الطمع بأن مجموعي يسمح لي بأكثر من ذلك جعلني أرغب الالتحاق بالكليّة التي تطلب أعلى مجموع، وهي كليّة اللغات والترجمة، لا أُنكر أنّني قبل قرار الالتحاق بها درست الموضوع، فوجدتني أحب اللغة الإنجليزيّة، ومن ثم أضاء أمام عينيّ هدف جديد له علاقة بهذه الكليّة، وهو تخصّص الدعوة باللغة الإنجليزية، فتحمّست ووضعت أولى رغباتي في التنسيق اللغات والترجمة، والرغبة الثانية الصحافة والإعلام.

تمّ مواجهة قرار تحويلي من الكليّة بالرفض والاستنكار من البعض، ومحاولات التشجيع والترغيب من البعض الآخر الذين قضوا الكثير من الوقت ليقنعوني بقيمة تخصّص اللغات والترجمة وإبراز مزاياه. ولكن أغرب ما تمّ مواجهتي به هو اللوم والتحذير من التحويل خشية أن أضيّع من عمري سنة!

ظهرت نتيجة التنسيق، وتمّ قبولي في كليّة اللغات والترجمة، وكنت في غاية السعادة بالبداية، لكن لم يستمر ذلك طويلًا، فسرعان ما بدأت تظهر عليّ علامات الملل والتشتّت، لماذا أنا هنا؟ وما الذي أفعله؟ هل سآتي كل يوم إلى الجامعة لأترجم كلمات ونصوص، وأدرس قواعد اللغة، واقرأ روايات، وأُجري محادثات إنجليزية؟ وبالتأكيد لا أقصد الذمّ في هذا التخصّص، فلم يكن مناسبًا لي، لكن حتمًا هو رائع للكثيرين غيري.

كانت السنة الجامعية الأولى كارثيّة بكل ما تعنيه الكلمة، ومازلت أحتفظ إلى الآن بصورة التقطتها لي صديقتي وأنا نائمة أثناء إحدى المحاضرة، حسنًا، لا بد من وضع حدّ لكل هذا. بدأت جديًّا بالتفكير في التحويل من هذه الكليّة إلى كليّة الصحافة والإعلام. ناقشت القرار مع أهلي والمقربين الذين أثق برأيهم.

تمّ مواجهة قرار تحويلي من الكليّة بالرفض والاستنكار من البعض، ومحاولات التشجيع والترغيب من البعض الآخر الذين قضوا الكثير من الوقت ليقنعوني بقيمة تخصّص اللغات والترجمة وإبراز مزاياه. ولكن أغرب ما تمّ مواجهتي به هو اللوم والتحذير من التحويل خشية أن أضيّع من عمري سنة! وأين المشكلة في ذلك إلى الآن، لم أفهم! هذه سنوات عمري، سأعيشها بشكل أو بآخر، وأنا لم أضيّع سنة من عمري في تفاهات لا قيمة لها، بل كان الالتحاق في هذه الكلية قراري، ثم اكتشفت أنه قرار خاطئ، هل سأدفع ضريبة ذلك عمري كلّه؟ أم أخسر سنة من عمري، "كما يقولون"، وبالمقابل أكسب عمرًا كاملًا من النجاح؟

ولطالما وهبني الله يومًا جديدًا من عمري، فأنا أملك به التغيير والقرار وطرق أبواب أخرى قد تكون أكثر جمالًا وإشراقًا بعد أن أظلمت الدروب، وسُدّت الأبواب هنا في وجهي، حقًا إنّه لأمر شاق ومُرهق بأن تكون في مكان ليس بمكانك، ولا تشعر بالانسجام معه. انتهى العام، ومازلت في اللغات والترجمة، ورغم ظهور نتيجتي بالنجاح، إلا أنّني كنت متأكّدة بأنّه ليس مكاني، وليس ما أسعى إليه، ففي النهاية، شعرت أنني لم أكتسب من هذه السنة شيئًا يُذكر إلا صحبة ومعرفة خيرة الأساتذة والطالبات الذين دامت صحبتي معهم إلى الآن.

بعد ظهور النتيجة، تمّ افتتاح باب التحويل، وكم كانت فرحتي كبيرة حين تمّ قبولي في كليّة الصحافة والإعلام. شعرت كمن كان تائهًا وسط صحراء وقد وجد ضالته بعد عناء. حلمي الأول، يا حلمي الجميل، قد عُدت إليك أخيرًا، وها أنا اليوم بعد أربع سنوات قضيتها بالعديد من الإنجازات والنشاطات الصحفيّة، أحمل شهادة تخرّجي، وبفضل الله تميّزت، وبدأت العمل في المجال الذي أُحب من قبل أن أتخرّج. إذًا، كان قرار التحويل صائبًا، وأحمد الله أنني استمعت لصوت قلبي وعقلي، ولم يهزّ صوت المشكّكين ونداءات المحذّرين ثقتي بنفسي وبما أُحب. بنهاية تجربتي أقول لكم:

| القرارا لك:  غالبًا ما ينصحنا، من حولنا، ويتدخّلون بشؤوننا بحسن نيّة بناءً على رؤيتهم، وليس كلّ الناس عندهم من الشجاعة ما يكفي لتغيّر مصير أو قرار جديد، لذلك أنت أدرى الناس بنفسك، والقرار بالنهاية لك، شرط أن يكون لديك القدرة على التفكير المنطقيّ، ودراسة جوانب الموضوع قبل اتخاذ أي قرار، وشرط أن تتمتّع بالشجاعة للعدول عمّا قررته في حال اكتشفت أن قرارك لم يكن صائبًا.

| اختر قمتك أنت: إياك أن يسحرك وهم كليّات القمّة! اختر تخصّصك الجامعي بما يناسب مهاراتك، واصنع قمتك الخاصة بك هناك بتميزك وجهدك، أما الالتحاق في كليات القمّة لمجرد الالتحاق وبريق الاسم! صدّقني لن يضمن لك ذلك الوصول للقمّة، بل قد يصل بك الأمر إلى القاع!

| لا بأس غيّر مسارك: إذا دفعتك الحياة إلى مُنعطف لا تريده، فليس من الحكمة أن تستمر بالانحدار به. أنت تملك القرار ولديك القدرة على التغيير، قف، خذ نفسًا عميقًا، تأمّل وفكّر وأدرس، ومن ثمّ غيّر مسارك بكل شجاعة، ففي الحياة العديد من الطرُق والخيارات، وتأكّد بأنّ انحدارك ووقوعك هذا سيكون نقطة تحوّل مهمة في حياتك إن أحسنت تأمّله، وأخذ العبرة منه.