بنفسج

هل سننجو؟

الأحد 20 يونيو

| تغريد

سبتمبر - الأزبكية - مصر القديمة - 1348، «تغريد» أربعينية متوسطة الجمال بعيونٍ سوداء ساحرة، تجيد العربية، وقراءة القرآن، وتحضر حلقة علم تنظمها إحدى نساء الأمراء. قبل خمسة عشر عامًا تزوجت من «شمس الدين»، وهو جندي مملوكي من «جنود الحلقة» الذين يعملون على حماية السلطان.

كان أول ما لفت نظر «شمس الدين» إليها، حين رآها لأول مرة في حي الأزبكية بالقاهرة، هو اسمها الذي يشبه اسم زوجة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله. تملكت قلبه، فتزوجها بعد ثلاثة أشهر، وفي اليوم المشهود، ارتدت فستان زفافها المزركش، وغطتها أمها بشالٍ كبير ينسدل من رأسها حتى أخمص قدميها، فلا يظهر سوى حذائها المطرز، ووضع والدها «الشربوش» [التاج] على رأسها، ثم ركبت «التختر» وهو خيمة ذات ستائر من الحرير الملون مخصصة لزفاف العرائس، وأقيمت وليمتان؛ واحدة للرجال وأخرى للنساء، ثم أخذها شمس الدين إلى بيتهما الذي أثثه لها كبيوت الأميرات، ووضع فيه سبع دكك من النحاس الأبيض، وإبريقًا ومبخرة وعدة صناديق، وهناك بدآ حياتهما الهانئة.

في أحد الليالي الصعبة المظلمة التي كان يخيّم فيها الموت الأسود على القاهرة، وبعد أن نام أولادهما الثلاثة: «غيّاث» و«ناصر» و«علاء»، عاد شمس الدين إلي بيته يتصبب عرقًا وتبدو عليه علامات الذعر. وجد زوجته في انتظاره وقد أعدت عشاءً شهيًا، استقبلته بابتسامتها الساحرة المعتادة التي تكشف عن غمازتين، فأقبل عليها وضمها بإحدى ذراعيه، وبالذراع الأخرى طعنها في جنبها بخنجره الحاد عدة طعنات حتى فارقت الحياة!

| الموت الأبيض

أغسطس - القاهرة - 2014، كنت أتحرك بين الموتى بخفة يوم «مذبحة رابعة» والدم حولي فى كل مكان، كأن لم يعد لي قلب، لم أكن أشعر بأي شيء، لم أكن أبكى حين أتحدث مع أمي، ولا حين عرفت أن صديقاتي متن واحدة تلو الأخرى. كنت أرفع رجلي حتى لا أدهس "مخ" أحدهم، وأحاول تفادي الخوض بقدمي في الدماء، فلا أفلح. لم يكن هناك شبر واحد خالٍ من الدم.

كنت أشاهد الناس والذعر يعصف بهم وقد يئسوا أن يجدوا مخرجًا، فيندفعون أحيانًا في اتجاه الرصاص بدلًا من تفاديه، وينظرون إلى الطائرات التي تقذف قنابل من السماء مبتسمين غير مبالين، أما البيوت المحيطة بالمذبحة، فقد أغلقت منافذها بالترابيس حتى لا يفكر أحد في الاستنجاد بسكانها لإيوائهم من هذا الهول.

رأيت الخوف يدفع بعض من كانوا خارج ميدان المذبحة، يدخلون إلى مرمى الرصاص خوفًا على أصدقائهم من الموت، فيموتون معهم، رأيت الخوف الحقيقي عندما يفقد الإنسان صوابه، ويُخل باتزانه، ويهزم حكمته ويقضي على مزيد من الأرواح.

في طريقي إلى المنزل، كنت أشعر بالخوف الشديد. وأتذكر أنني بتّ ليلتي كلها أسأل الله: لماذا؟ لماذا لم تكن هذه نهاية العالم بعد كل ما حدث؟ لماذا لم تنقذ الأبرياء من الموت؟ طوال الليل أنظر للسماء وأقول لله: أعرف أنك موجود ولا ترضى بهذا، فأطلعني على السبب والحكمة حتى تطمئن نفسي وتسكن.

| الرقص على مواء القطط؟

بدأت إحدى الراهبات في ديرٍ فرنسي بالمواء مثل القطط، لسبب غير مفهوم، مما أدى إلى مواء بقية راهبات الدير  لمدة معينة كل يوم، والناس من حولهن في حالة ذهول، ولم يتوقف المواء حتى هددت الشرطة بجلدهنّ.

دير الراهبات- فرنسا - 1751، بدأت إحدى الراهبات في ديرٍ فرنسي بالمواء مثل القطط لسبب غير مفهوم، مما أدى إلى مواء بقية راهبات الدير لمدة معينة كل يوم، والناس من حولهن في حالة ذهول، ولم يتوقف المواء حتى هددت الشرطة بجلدهنّ.

يوليو - ستراسبورغ - فرنسا - 1518، بدأت السيدة الثلاثينية «فراو تروفيا» بالرقص بحماس في أحد شوارع ستراسبورغ، ما بين 4-6 أيام بشكلٍ متواصل. في غضون أسبوع انضم إليها 34 آخرين، وخلال شهر واحد، كان هناك نحو 400 من الراقصات والراقصين. بعضهم مات في نهاية المطاف من النوبات القلبية والسكتات الدماغية، أو الإرهاق.

فبراير - ماساتشوستس أمريكا - 1692، كانت المراهقتان «أبيجيل ويليامز» و«بيني بريس» تتعرضان لضغط نفسي كبير أدى إلى إصابتهما بالنوبات البدنية الهستيرية التي اعتُبرت أقوى من الصرع في ذلك الوقت. الغريب أن هذه النوبات انتقلت إلى العديد من زميلاتهما في الفصل دون أن يكنّ مصابات، وانتقلت لوالديهما وإخوتهما. تخيلت السلطات أن الفتاتين تمارسان نوعًا من الشعوذة والسحر، وكانت هذه التهمة كفيلة بإقرار عقوبة الإعدام حرقًا بحق 20 سيدة.

| يناير- الضفة الغربية - فلسطين - 1983

انتهى المحققون إلى أن 20٪ من الحالات المبكرة استنشقن نوعًا من الغاز ظننّه مميتًا، لكن الـ 80٪ الباقية كن ضحايا لحالة من «الهستيريا الجماعية».

في طريقها للمدرسة، اشتكت مريم لوالدتها من رغبة شديدة في القيء، ثم لم تلبث هذه الرغبة أن هاجمت الأم وهي عائدة إلى المنزل. لاحقا، اشتكت ٩٤٣ فتاة فلسطينية من فتيات المدارس، وعدد من جنود الاحتلال الإسرائيلي من ذات الشعور بالغثيان والدوخة. انتهى المحققون إلى أن 20٪ من الحالات المبكرة استنشقن نوعًا من الغاز ظننّه مميتًا، لكن الـ 80٪ الباقية كن ضحايا لحالة من «الهستيريا الجماعية».

| حرب الكل على الكل

الفيروسات لا تأتي وحدها، فمع كل وباء أو خطر يتسلل فيروس آخر لا تكتشفه معامل التحليل، ولا يمكن السيطرة عليه، وذلك هو «الخوف» الذي ينتقل من شخصٍ لآخر بصورةٍ لا إرادية. الشعور بمواجهة الموت يؤدي إلى خوف، وحين يصبح الخوف «حالة جماعية» بفعل شح المعلومات عن الوباء الجديد وطرق العلاج، يضطرب الناس وينهار روتينهم الطبيعي، وتنهار عقولهم، فيلجؤون لسلوكياتٍ بدائية جدًا لسد احتياجات بدائية، بما في ذلك الهجوم على الآخرين، لو شعروا أنه يهدد تلك الاحتياجات في وقت الأزمة.

يسعى الخائف إلى الدفاع عن نفسه بالتسلح، فيدفع الآخر الخائف من التسلح إلى مزيد من التسلح، وهكذا دواليك، حتى يصبح الجميع عدو الجميع. الجار سينقل العدوى، والصديق مصدر للتهديد، والزوجة، مكمن الخطر، والجميع موضع اتهام وشك، فتتغير أنماط العلاقات بين البشر ويسود شعور يسميه هوبز «حرب الكل ضد الكل»، وهو درجة متقدمة من «الهستيريا الجماعية».

قتل شمس الدين زوجته خوفًا من أن تنقل له المرض، تحولت زوجته الحبيبة لعدو يخشاه بعد أن أخبره أصدقاؤه في جلستهم المسائية أن العلاقة الجسدية بين الأزواج من أسباب العدوى بالطاعون الذي يحصد أرواح الناس، وتواصوا ألا يقربوا زوجاتهم حتى انتهاء الوباء. في لحظة غير مفهومة لشمس الدين، وفيما كان عقله يقع تحت تأثير الخوف وحب البقاء، بدلًا من تجنب زوجته، تخلّص منها.

| كورونا في بيتنا

5 مايو 2020، «أنا صديقتك من أيام الجامعة، أريد أن أتحدث معك بشكلٍ عاجل». استيقظت على هذه الرسالة من صديقة طبيبة، فاتصلت بها لتقول لي: حالة والدتك الصحية سيئة للغاية، وهي الآن في العناية المركزة على أجهزة التنفس الصناعي. والدتك مصابة بكورونا، وتم عزل إخوتك جميعًا». قابلت كلامها بالصمت التام، لم أعرف ما الذي يجب أن أقوله!

دوار عنيف أصاب رأسي، وسحابة سوداء حجبت الرؤية أمامي، وارتعشت قدماي، فلم تعودان قادرتان على تحمل جسدي. كانت هذه هي اللحظة الأسوأ في عمري على الإطلاق.

| هل سننجو؟

اللعنة التي يحضرها الشعور باقتراب الموت هي لعنة الخوف، هذه اللعنة هي الموت الحقيقي، وهي أكثر ألمًا من الكحة الجافة وصعوبة البلع والمكوث لأيام على جهاز تنفس. الألم الحقيقي هو أن نفقد الاتزان، فلا نعرف سببًا لدخولنا في هذه العزلة الإجبارية، ولا غاية لحياة بين الجدران يتخللها القليل من الشعور بالأمان الذي يوفره التواصل مع الناس على الشبكات الاجتماعية، أمان سيزول بالتدريج حين يطول الوقت.

الألم الحقيقي هو أن نكون قد خسرنا أنفسنا وإنسانيتنا وقيمنا في نهاية هذه المعركة. هو ألا نجد ما نحكيه لمن بعدنا عن أيام أو شهور عشناها بين الجدران منتظرين هزيمة العدو. الخوف يغيّرنا، يفتك بنا، ينتزع إنسانيتنا، وصفاتنا الأصلية بالتدريج فنفعل كل ما يناقض هويتنا.

قابلت الموت عدة مرات في شوارع وأزقة القاهرة، وها هو اليوم يطرق باب أحبتي من جديد ليعيد مذاق الرعب إلى حلقي، وأظنني أفهم جيدًا كيف يكون شعور الخوف منه، بقدر ما أفهم أن «النجاة» ليست أن أفوز وأحبتي بيومٍ جديدٍ على قيد الحياة! النجاة منه هي أن تلتقط الحكمة وتُرزق البصيرة، وتتيقن من الغاية، وتتأكد من سبب الوجود ومغزى الخلق. هي أن تهزم طوفان الأسئلة الوجودية العنيفة التي تحاصرك في وقت الحرب، وداخل معزلك الصحي.

النجاة هي ألا نستسلم ونفقد شجاعتنا في مواجهة العدو، وأن نكون صفًا واحدًا في مواجهته بدلًا من كونها حربًا من «الكل على الكل». هي أن تتزن حين يصبح قريبًا جدًا، وأن تثبت قدميك على الأرض وهو يأتي كوحش مفترس يريد تشويهك قبل أن يقضي عليك. النجاة هي وأد الخوف قبل مولده، وسحقه قبل نشوب أنيابه، هي أن تتغدى به قبل أن يتعشى بك. النجاة هي أن تستأسد النفوس في وقتٍ يضغط عليها لتخضع، وأن يصحّ عقلك وقلبك في وقتٍ يحتمل فيه أن تتعفن في عزلٍ إجباري غير معلوم النهاية وإصابة أحبة قد يفجعك ألمهم.

في أعوامي القليلة الماضية، خبرت الموت، وخبرت النجاة، وأعرف جيدًا أن النجاة بأيدينا، أما مفارقة الروح للجسد، فهي بيد الله، وأدرك جيدًا أن النجاة ليست أن تعيش حين يموت الجميع، وإنما هي ألا تهتز أو تفقد صوابك. أن تكمل طريقك بهدوء وأمل ويقين، هي أن يكون قلبك ثابتًا، جدًا، حين يخاف الجميع.