بنفسج

هل نستطيع العيش بعيدًا عن العالم الافتراضي؟

الثلاثاء 18 يناير

قبل أيَام، و كما لاحظ المعظم منّا، بحكم استعماله لمواقع التواصل، حدث عطل كبير أدّى لانقطاعها عنّا لبضع ساعات، عجّ الصخب في العالم أجمع، وصرنا جميعًا نبحث عن سبب هذا العطل، وتوجه المعظم لمواقع أخرى لم تصلها الأعطال، كنت أقرأ عن دعابات النّاس بهذا الخصوص، على موقع تويتر تحديدًا الذي بقي متماسكًا أمام انهيار المواقع الأخرى (واتساب و فيسبوك و إنستغرام)، كان الكثير من النّاس في تخبّط شديد، وبعضهم غرّد معلنًا أنّه على وشك فقدان أعصابه إن لم تحلّ هذه المشاكل خلال دقائق سريعة!

هنا لم أشعر سوى بغلبة هذه المواقع وتمكنّها من حياتنا بطريقة لم نعِ لها أبدًا، وكأنها صارت محور حياتنا ولا معنى ولا وجود لنا إن فقدناها. أحد التعليقات الساخرة كانت: ماذا لو انهارت مواقع التواصل معلنة نهاية هذا العالم الافتراضي عن الوجود؟ كيف سيعيش أصحاب ملايين المتابعين والمؤثرين دون أن يخبرنا عن أدق تفاصيل حياتهم، ودون أن يروّجوا لبضائع -بداعي الإعلانات-.

السوشيال ميديا يجب أن تبقى أداة في يد الإنسان لا أن تصبح هي المتحكم بشخصيته وأفعاله وانفعالاته، بل وحتى في نظرته للآخرين. كما وجود جمهور واسع لك بين النّاس، في العالم الافتراضي لا الحقيقي، وانحصار إنجازاتك هنا في عالم وهمي مكوّن من ملايين الشبكات، لا يجعل منك بطلاً أو شخصًا مميزًا بأي طريقة.

يحتاج الأمر وقفة حقيقية صادقة مع النفس لمواجهة مشاكل السوشيال ميديا التي قد تزرعها في نفس الفرد دون أن يشعر. جنون اللايكات والمتابعين، كلمات الثناء، وصخب الإطراء، قد يودي بصاحبه للجنون والهوس المريض، إن لم يعِ ذلك! السوشيال ميديا يجب أن تبقى أداة في يد الإنسان لا أن تصبح هي المتحكم بشخصيته وأفعاله وانفعالاته، بل وحتى في نظرته للآخرين. كما وجود جمهور واسع لك بين النّاس، في العالم الافتراضي لا الحقيقي، وانحصار إنجازاتك هنا في عالم وهمي مكوّن من ملايين الشبكات، لا يجعل منك بطلاً أو شخصًا مميزًا بأي طريقة.

اعتزال هذه المواقع بين الفترة والأخرى، أو حتى اعتزالها بشكل كليّ للحفاظ على قيمة النفس الحقيقية هو الوعي بعينه. وكلّ هذه النماذج التي باتت تحترف التنظير وادّعاء المثالية، تنكشف تدريجيًا تاركة وراءها الكثير من التساؤلات. لمَ يُلمّع الناس شخصياتهم على هذه الحسابات بطريقة مجنونة، وعند أوّل محك حقيقي يظهر كلّ ما في جعبتهم. قبل نصف عام تقريبًا، اتخذت قرارًا باعتزال موقع إنستجرام تمامًا، لعدم رغبتي بالاطلاع على أدّق تفاصيل الآخرين، ومحاولة الوصول لسلام نفسي أبحث عنه. قوبل قراري هذا بالتشجيع من بعض صديقاتي، وعلى الجانب الآخر هناك من سخّف هذا القرار واعتبره إفراطًا في العزلة لا أكثر.

لكنّني، وبصدق، أشعر براحة كبيرة بعد التخفيف من المدخلات التي كان يتعرّض لها عقلي يوميًا حول حياة الأشخاص من حولي، ولم تعد تتكون لدي الرغبة بطلب المزيد من كلّ شيء في الحياة، أعتقد أنّ هذا الشعور قريب إلى الرضا، وأطمح أن أصل إليه، لكن الاطلاع المستمر على تفاصيل الآخرين، يولدّ، عاجلاً أم آجلاً، رغبة بطلب المزيد، وعدم الاكتفاء بالموجود، ويرسم صورة وردية للحياة بعيدة كلّ البعد عن واقعيتها ومنطقيتها.

التخفيف من الانخراط في العالم الافتراضي، يشجّع على الاكتفاء بالموجود لدى كلّ واحد منّا، والشعور الحقيقي بالسعادة بما تملكه اليد من نجاحات وعلاقات وإنجازات حققناها لأنّنا نحبها، لا لأن العالم كله يفعل ذلك، بل لأن الابتعاد عن الإفراط في استخدام هذه المواقع يولّد في عقل كلّ واحد منا أهدافه الخاصة، غير متأثرة بأهداف الآخرين، ويصنع كلّ واحد منا حياته بالطريقة التي يحب، كاسرًا الصورة النمطية عن السعادة والنجاح التي زرعتها مواقع التواصل وروّادها.