بنفسج

غرق في تفاصيل: عن الفراق في زمن "السوشال ميديا"

الإثنين 25 يناير

لا يستطيع الإنسان العيش بمعزل عن الآخرين، فهو كائن اجتماعي بطبعه، تربطه علاقات من أشكال شتى مع غيره، إلا أنه من سنن الحياة أن هذه العلاقات لا تدوم ولا تُخلَّد، ومصيرها – مهما طالت - إلى انتهاء، ومآل أطرافها إلى فراق، فقد تنتهي العلاقة بموت أحد طرفيها، أو بطلاق جمع زوجين دهرًا من الزمن، أو بخلاف فرّق صديقين جمعتهما ألفة لطيفة، أو حتى باتفاق أن الطريق الذي قد لمَّ شمل حبيبين أصبح متفرعًا ولا بد من انفصال!

في زمن "السوشال ميديا" قد نغرق في تفاصيل تلك العلاقة بشكل لم يكن ليحدث سابقًا، فترانا نتواصل بشكل حثيث عبر الواتس آب، ونتبع الصورة الملتقطة لما هو حولنا بتسجيل صوتي يشرح تفاصيل لم تتوضح فيها، نستيقظ وقد قام أحدهم بعمل "منشن" لنا على بوست في الفيسبوك لأن الكلام قد ذكره بنا، ونضع "ستوري" على الإنستغرام، نعايد فيها على فلان في عيد ميلاده، ننشر الفيديوهات تترا على السناب شات توضح تفاصيل رحلتنا مع العائلة. 

 فيما يضج صندوق الرسائل بمحادثات مع الأحبة والكثير من "الستيكرات" التي تعبر عن الشوق والحب. لسبب أو لآخر تنتهي تلك العلاقة، سواء أكان ذلك برضى من الطرفين أم – وغالبًا ما قد يكون- بغير رضاهما، فالموت أو الخلاف أو حتى اختلاف الوجهات في الحياة يعطّل روتنيا اعتاد عليه الإنسان في ظل وجود شريك العلاقة معه في دربه، مما يؤدي إلى ارتباكه بسبب الفوضى الحديثة الحاصلة.

| فراق على منصات "السوشال ميديا"

السوشال ميدا 5.png

كما أن ذلك الشريك يخلف وراءه مساحة فارغة تتسع بالقدر الذي كان يحتله قبل الفراق، فكلما تشعبت جذور العلاقة بينهما، كان انتزاع روحها أصعب من كليهما، فذاك "كوميك" كان ليضحك عليه شريكي لو أرسلته إليه، وتلك عبارة لطيفة كنت قد أرسلتها له عندما كان حزينًا، وهذه نصيحة تشبه تلك التي أرسلها إلي عندما احتجتها، أما أيقونة الأستوديو ففيها صور تجمع ضحكاتنا وفيديوهات تسجل نزهاتنا في السيارة وتوثق الأغاني التي صدحنا بها سويًا والطعام الذي تشاركناه.

 كيف نمحو كل تلك الذكريات من أذهاننا، ونعود لنمارس حيواتنا بشكل طبيعي؟ إن الألم الناتج عن الفراق هنا ليس هينًا، فكل جزء من التفاصيل يذكرك بشريكك، والكثير من التفاصيل يتواجد على شاشة جهازك الذكي الذي لا تستطيع منه انفكاكًا في أغلب الأوقات والأحيان. وكثير منا قد يقوم بسلوكيات تزيد ذلك الألم وتعمق الجرح الغائر في القلب، وتجعل الفراق غبيًا، فنعلق فيه ويعطل أداءنا ويقلل إنجازنا في كثير من مناحي الحياة. سأسرد لك هنا جزءًا من تلك السلوكيات:

| مقاومة فكرة الانفصال: مقاومة الانفصال الذي قدّره الله علينا في تلك العلاقة ومحاولة التشبث بسرابها، مختلقين أعذارًا للشريك حينًا، ولائمين أنفسنا أحيانًا أخرى، قد نمضي وقتًا في المفاوضات مع الشريك من أجل العدول عن فكرة الانفصال، كما أننا قد نطحن أنفسنا في أسئلة عن انتهاء العلاقة " لماذا حدث ذلك؟ كيف استطاع القيام بذلك التصرف؟ لماذا لم يتمسك بعلاقتنا أكثر؟ هل كان سيتركني إن لم أتصرف بتلك الطريقة؟". كل تلك الأسئلة وغيرها، ستتزاحم في أذهاننا محاولة إعادة إحياء هذه العلاقة غير معترفين بموتها.

| التخوف من العلاقات الجديدة:
أي تحريم العلاقات الجديدة على النفس بسبب الألم الناتج عن العلاقة القديمة، وإن لم نحرمها بشكل كامل، فقد نضع الكثير من القيود والعراقيل أمام أي علاقة جديدة تخوفًا من ألم مشابه، مضيعين بذلك على أنفسنا العديد من الفرص التي قد تكون مناسبة جدًا لنا، وقد تفتح آفاقًا واسعة لا نراها من مكاننا الحالي.

| إنكار الألم الناتج عن الانفصال: وعدم إعطاء النفس فرصة للتعافي، ومحاولة التصرف بفرح وغبطة كالناجي من الجحيم، وفي ذلك إجحاف بحق العلاقة، لأنه من المستحيل خلوها تمامًا من اللطائف التي حافظت عليها كل تلك الفترة بالرغم من الأسباب التي أدت إلى انتهائها. عدم الوعي بأهمية ذلك الألم، وبالتالي، الشعور بالذنب بسببه، إن الألم الناتج عن الفراق مهم ومفيد لنضجنا النفسي وللإلتقاء بذواتنا أكثر، فندخل العلاقات الجديدة بوعي أكبر.

| نكيء الجراح مرة أخرى: الاستسلام أمام المساحة التي خلفها اختفاء الشريك، وعدم إشغال النفس عنها بكل مفيد، فترانا نسرح بكل صورة، نعيد تشغيل كل فيديو، ونسمع كل تسجيل صوتي مرات عدة، نغرق أنفسنا بالذكريات "لقد كان يحب أكل السمك، لقد كانت تكره هذا اللون، استمتعنا جدا في تلك الرحلة...". إن في ذلك تعذيب لروحك، وإنهاك لنفسك، فما المفيد في نكئ الجرح مرة بعد أخرى؟!

| انتظار العودة من جديد: 
انتظار أن يعود الشريك معتذرًا باكيًا طالبًا أن تعود الأمور إلى مجاريها، قد يكون ذلك أبعد ما يكون عن الواقع، ويكون الشريك قد مضى في حياته متفاعلًا منجزًا، ونحن ننتظر على الأطلال غير قادرين على طيّ صفحة آن لها أن تطوى من حياتنا، فيمضي العمر بانتظار شيء قد لا يأتي بتاتًا، وإذا أتى، فسيكون محملاً بكثير من الندوب.

| النظر بسوء للنفس: النظر إلى انتهاء العلاقة مع الشريك وكأنه فشل للذات وليس كتجربة أضافت المزيد لخبراتنا الحياتية، فبالرغم من العيوب التي لا يخلو منها أي أحد، قد يكون سبب الانفصال هو تطور الشخصيات وتبدل الاهتمامات وتغير الظروف. قد نكون كقطعتي بازل مميزتين، لكننا، ببساطة، لا يناسب أحدنا الآخر للأسف.

| الإخفاق في العلاقة ليس النهاية: إن العلاقات الإنسانية متشعبة وذات ألوان شتى، فقد تكونين زوجة ولم يكلل زواجك بالنجاح، لكنك في ذات الوقت أم عظيمة، وأخت داعمة، وصديقة لطيفة، وبنت بارّة. إن الإخفاق في إحدى العلاقات ليس نهاية الكون الخاص بك، لأنه – أي الكون – لا يتمحور حول ذلك الشريك بل حولك أنت كإنسان حر تختارين علاقاتك بتوازن وحكمة، وتبدأينها وتنهيها بشجاعة ونبل.