بنفسج

في عصر الحداثة: ثمن التقدم من يدفعه؟

الأربعاء 10 يونيو

من منا لا يعجبه التطور الحاصل ومن منا يتصور حياتنا بدونه؟ من السيارات إلى الطائرات إلى الهواتف الذكية، والآتي أكثر إبهاراً؛ سيكون منازل ذكية ومدناً ذكية وربما كوناً ذكياً. هذا التطور الرهيب والسريع كما لم يكن في أي حقبة بشرية سابقة، تطور لا يعطيك فرصة لتتوقف قليلاً وترى خلفك ما تركت أو ما وقع منك حتى لو كان المفقود "إنسانيتك".

في الحداثة التي نعيشها هناك آلاف العمال الإفريقيين الذين طحنتهم وتطحنهم الرأسمالية المتوحشة كل يوم، هل يستوون مع أناس يستمتعون بالآلات التي سهّلت العالم؟ هناك من يعجبه أن يعلم كل تحركاته وأن يكون في يديه جهاز يستطيع أن يخزّن فيه كل ما يريد لكن ماذا عن استباحة هذه المعلومات لصالح من يسهل علينا جمعها؟ "جوجل وفيسبوك نموذجا".

ما رأيك بزراعة قطعة صغيرة للغاية في جسدك وإعطائك رقم لتسجيل حالتك المزاجية وتغيرات جسدك لمساعدتك على اختيار الطعام المناسب والموسيقى والأصدقاء المجاورين لك؟ هل ترى في هذا إهانة لك قليلاً بأن تصبح مثل السجناء "رقما"؟ أم تجده استباحة لجسدك الخاص؟ أم هو شيء عادي؟ في العالم الحالي يتم تطوير هذه القطعة الصغيرة وتجربتها على الإنسان لتكون سجلاً كاملاً يبدأ من الميلاد إلى الوفاة تحتوي على كل تفاصيل حياتك، ألا يبدو هذا مرعباً قليلا؟ والأكثر رعبا لم يأتِ بعد.

إن الحداثة التي صنعتها أوروبا أفقدت الإنسان إنسانيته في كثير من الأحيان بالإضافة إلى أنها أثّرت على المجتمعات النامية فبعضها لم يتطور ولكن أصابته سيئات الحداثة من تفكك المجتمع وربما انحلاله.

ما المشكلة في هذا التقدم؟ ألا يسهل حياتنا ويمنحنا خيارات أفضل في كثير من الأحيان؟ في الحقيقة نعم ولا. صحيح أنه يمنحنا خيارات متعددة أحياناً لكنّه يقتل الإنسان داخلنا أحيانا أخرى، المشكلة في أن هذا التقدم له ثمن باهظ للغاية وهذا الثمن يجب أن يُدفع؛ لكن الذي يدفعه ليس هو الذي يستمتع به. الثمن الغالي الذي كانت أرواح ملايين الناس رهينة به لتجربة قنبلة نووية هدفها فرض السيطرة، ليسوا هم الذين تمتعوا بالأمن بعد فرض السيطرة.

مئات البشر الذين استُخدموا لإجراء تجارب طبية بالإجبار لم يكونوا هم الذين استفادوا من الأدوية المنتجة. والعمال الإفريقيون والصينيون الحاضرون دوماً كثمن رخيص مقابل تقدم أوروبا، والتجارب الجارية الآن خصوصاً مع تسارع تطور الذكاء الاصطناعي سيكون لها ثمن لاإنساني كبير، ومن يدفعه غالبا أناس لا يرون كم هو جميل هذا التطور.

إن الحداثة التي صنعتها أوروبا أفقدت الإنسان إنسانيته في كثير من الأحيان بالإضافة إلى أنها أثّرت على المجتمعات النامية فبعضها لم يتطور ولكن أصابته سيئات الحداثة من تفكك المجتمع وربما انحلاله، حتى أصبح المفكرون يتحدثون عن محاولة "أنسنة الإنسان" بعد كل هذا الجنوح والتوحش المادي، حين تصبح رقماً لا أكثر.

 حين تصبح شيئاً في عالم الأشياء، وتتمركز حول ذاتك واحتياجاتك فقط؛ متناسياً من حولك بكثير من الأنانية، ودون أن تفكر بأي أمر سوى وجهة نظرك الشخصية "مصلحتك وفقط"، لن تتنازل عن أهوائك وشهواتك أبداً، كيف سيكون شكل العالم حينها؟ حين يمتلأ بأشخاص أنانيين جداً.

في الرواية الشهيرة الساعة الخامسة والعشرون، يتحدث المؤلف عن سيطرة الآلة على الإنسان بشكل فج حتى ينسى الإنسان نفسه. وبين دفتي الرواية، تحولات الأشخاص من بشر بأحلام بسيطة عادية إلى أشخاص مثقلين بكثير من الآلام والمآسي بسبب ما مروا به، حيث تحدثت الرواية عن اليهود وما عانوه على يدي هتلر.

وفي آخر الرواية وبعد الحرب العالمية الثانية كان هناك مشهد تجلى فيه أحد أهم الفروق بين ضحايا التقدم وبين المستفيدين من التقدم. المشهد بين فتاة يهودية ما زالت في العشرينيات أو الثلاثينيات من عمرها، ولكنها رأت آلاما جعلت عمرها ألف عام أو يزيد. وشاب وسيم يعيش حالة ما بعد الحرب وما بعد القضاء على هتلر؛ أنيق في مكتب مرفه يلبس بدلة بعلامة تجارية فارهة، ويعرض عليها الزواج مستغربا: لماذا لا تتزوجينني؟ أخبرته أنه لا يناسبها ولا تناسبه. 

إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط... حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث... حداثة تحترم التعاقد ولا تنسى التراحم.

أخبرته أنها عاشت ألف عام من العذاب والحرمان واليأس، وهو رجل أناني لا يعرف الحب العاطفي الحقيقي فما حبه إلا مجرد شهوة. وأخبرتهُ أن التجارب التي عاشتها جعلتها كبيرة في العمر لا تتناسب مع شخص غض مرفه مثله! وهو أعرب عن أسفه لعدم قبولها الزواج، فقط هكذا يبدو الأمر له سطحيا وآنيا.

إن الحداثة التي نعيشها الآن كانت قد وعدت بالأمن والسلام، احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه، ورغم ذلك هذه الحداثة نفسها هي التي نتج عنها حربان عالميتان مات فيها ملايين الناس، ودول بأكملها تم تدميرها والقضاء على كل البنى التحتية فيها. وهذه الحداثة هي التي أفرزت النازي هتلر رغم إنكارهم له؛ لكنّه في الحقيقة تجلٍّ للمادية التي اجتاحت الغرب فأصبح كل ما لا نفع له لا قيمة له، وإن كان الإنسان نفسه.

في الحقيقة هناك الكثير من المفكرين الذين يصرخون بضرورة نجدة العالم قبل أن يتآكل أكثر فأكثر اجتماعياً وإنسانياً، وفي قول للدكتور عبد الوهاب المسيري: "إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط... حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث... حداثة تحترم التعاقد ولا تنسى التراحم".