بنفسج

ولن نمل الحديث.. عن نفق الحرية

الأحد 01 مايو

" لَم نَحظَ بِالحريةِ أَكثر مِن أَربع سَاعات، كَانت أَكثر مِن كَافية رُبما لِتكثيفِ هَذا المعنى الذي لا يُدركهُ إِلا مَن جَربَ السجن. إنّها الحُرية". كَان هَذا قَولُ أَحد الأَسرى الذين حَملتهم رواية "طريق جهنم" للروائي والكاتب أيمن العتوم، شَدَّني قَوله، حَديثهُ عَنْ الحُرية، عَن إِدراك معناها، وَعن التوّق لَها وعن عظمها بالنسبة لهم رُغم قِلة وَقتها. شَئٌ مَا بِها جَذبني، لمس قلبي تَارة وَجرحه تارة أخرى، سَمعت عتابها ولربما عتابهم ذلك، الذي تحمله "لا يُدركه"، ثم تبعها "إلا من جرب السجن"، وقال "إنَها الحرية".

شئٌ مَا فَتح بَاب ذاكرتي لربما "أربع ساعات"، ثم أحضر أمامي قصةً ما زالت حاضرة في قلوبنا "نفق الحرية"، وبالتحديد كَلمات أبطالها مَا بَعد إِعادة اعتقالهم وحديثهم عن حريتهم، وعن بضعٍ من أمانيهم، وما كانت تحدثهم به نفوسهم، عن تلك الأيام أو الساعات التي تجولوا فيها بحقول بلادهم، عن أول شروقٍ لأرواحهم بعد سنين عجاف. حضر أمامي حديث الأسير يعقوب قادري وهو يحكي عن حلاوة تين البلاد وبرتقالها، وعن رؤيته لأطفال بلاده لأول مرةٍ منذ اثنين وعشرين عامًا، عن حضنه الدافئ لهم، ثم قال عشت أجمل خمس أيام في حياتي.

عن أمنية الأسير أيهم كممجي بأنه كان يُود فَقط مِن حريته هَذه أَن يَزور قَبر وَالدته ويقبله، لَعله بتلك القبلات يُخفف مِن وطأة الأَيام على قلبه، لعله يخفف من لوعته التي حرم منها، أو يُحي بها شيئًا مما مات في قلبه مع موت والدته، أو يصلها شيئًا من ذلك الحنين الذي يسكن قلبه.

 ثم ذلك العسل الذي جهزته والدة الأسير محمود العارضة ليتناول قمرها منه، عن أمنيتها بأن يتذوقه أو يأخذه معه ثانية إلى زنزانته لعلّه بِه يُخفف مِن مَرارةِ آيامه وَعلقمها. ثم حكاية الأسير محمد العارضة وقوله: أنّه لو كانت تلك الخمس أيام التي عاشها هي كل ما تبقى له لوافق من دون تردد، عن عمق المعنى حين قال "أَكلنا من صبر البلاد". عن أمنية الأسير أيهم كممجي بأنه كان يُود فَقط مِن حريته هَذه أَن يَزور قَبر وَالدته ويقبله، لَعله بتلك القبلات يُخفف مِن وطأة الأَيام على قلبه، لعله يخفف من لوعته التي حرم منها، أو يُحي بها شيئًا مما مات في قلبه مع موت والدته، أو يصلها شيئًا من ذلك الحنين الذي يسكن قلبه.


اقرأ أيضًا: خراريف فلسطينية: الوطن في حقيبة سفر


تَماثلت أَمامي ضَحكات الأسير مُناضل انفيعات فرحًا بحريته، بذلك المقطع الذي استطاع به أن يُوثق حُريته، تلك التي لم تتجاوز بضعةِ أيام، لكنها رغم قلتها كانت كفيلةً أن تُضحكه دهرًا بأكمله، وَتروي ظَمأ قلبه، وُتضحك روحه التي آلمها الأسر وتفك الوثاق عن ثغره ليسجل بها ضحكة الانتصار وَيُذيق المُحتل بِها مرارة الهزيمة.  "إنّها الحرية" تِلك التي يَعرف وَيُدرك مَعناها مَن حارب من أجلها، ولا نعلمها نحن مهما حاولنا لأننا ببساطة لم نجرب أن تُسلَب مِنا أو ليست بذلك الشكل أو بعدد السنين، وهذا ما يؤلم القلب ويترك جراحه تنزف، أن أبسط ما نعيشه هو أمنيةٍ لأسرانا وليس لأي أحد، من نعيش صدقًا في هذه الحرية المجزوءة بفضلهم.

وهذه الأمنيات ليست إلا نَبذة قَصيرة عَن أحلامٍ عديدةٍ تَأسرها القَضبان وَتُكبلها القُيود، فكلِّ أسير حكاية، وما يخبئه بداخله يحتاج للكثير من الصفحات لأن تكتبه، ولكنها بكثرتها بسيطة، بسيطةٌ إلى الحد الذي يُشبع القليل منها، متعبةٌ طريقها للحد الذي يُحفر نَفقٌ لتشرق منه شمسها، وَتطير كالعاصير مُحلقةً وَمغردةً، تغيظ قيودها، وتقهر معها ذلك السجان الذي ظنِّ بحماقته أن لا أحلام لأسرانا بعد الآن. 

إن تلك الأمنيات هي بمثابة كل شيء بالنسبة لهم، وهي بالشيء القليل بالنسبة لنا، عمرًا بالنسبة لهم، وذلك الطعام رغم بساطته هو أَلذُ ما دخل إلى أمعائهم، تلك الأنفاس التي التقطوها خارج قبضان زنازينهم هي أحن ما مرًّ من هواء على رئتيهم، وأن ما اعتادت أعيننا على رؤيته من زرع وحقول وَضحكات على أطراف الطريق كانت بردًا وسلامًا وراحةً على قلوب أبطالنا.

"إن ما نراه نحن من لا شيء هو كل شيء، ولكننا نجهله"، وهنا مقصد الحديث، مبتدأه وَمنتهاه، أسرانا ليسوا أرقامًا، ولا حكايات نمر عنها هكذا، ولا تريندات نتفاعل معها لبضع الوقت ثم ننساها، أسرانا هم نحن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأبسط ما نفعله هو أنّ لا ننساهم، ندرك معنى الحرية بالنسبة لهم، نُحدِّث عَنهم كَثيرًا، ندعو لهم بفرج يشرق قريبًا على أرواحهم وبصبر ينزل على قلوبهم يخفف عنهم ثقل الأصفاد وظلمة الزنازين. أن نحكي لكل من يمر علينا في حياتنا عن أقمارٍ وأحلامٍ وأمنيات تقف خلف القضبان. وما نحن لولاهم.