بنفسج

ما لا نعلمه عن السفر

الأربعاء 22 مارس

في ليلة شديدة البرودة، نسبة لطقس فلسطين، المعتاد لنا منذ سنوات طويلة، زارنا جارنا التركي، ولم يكن والدي موجودًا في المنزل، اعتذرنا منه بلغة الإشارات، وقليل من التركية التي كنا قد تعلمناها سريعًا كي نُدبِّر أمرنا في التواصل مع المدينة وسكانها، ابتسم جارنا لاعتذارنا بلطف، وأهدى أختي الصغيرة قالب كيك، وأخبرها أنه سيأتي مرة أخرى بعد ساعتين. وفي تمام الثامنة مساءً، كان حاضرًا على بابنا، بشوشًا بكل ما أُوتي من حب ونقاء ودفء في التواصل، ولم يكن والدي قد وصل بعد.

ابتسم ثانية، محمّلًا بحسن الظن، وتقبّل العذر، ورحابة الصدر، وأهدانا ثلاث قطع من الكيك، واحدة لمن يفتح الباب، وثانية لأمي، وثالثة لأبي، وودعنا بكل لطف وسلام المسلمين، بلهجته الأعجمية اللطيفة "سلامٌ أليكم". حينما جاء والدي، كان الليل قد دقت ساعته، وخيوط عتمته نُسِجَت في البيوت، قصصنا عليه الحدث بكامل الإعجاب، فأصر أن يعتذر منه، ويُسلّم عليه ويشكره، ثم يزوره في وقت لاحق. طرق الباب، وقصّ عليه من الأحداث ما كان حائلًا في وصوله باكرًا لاستقباله، وأخبره بأنه يفضّل البقاء على درج المنزل، خشية إيقاظ أطفاله، وتأخر الوقت لضيق منزلهم المكوّن من غرفةٍ وصالةٍ أصغر مساحة منها.

طال وقوفهم، فجلست أختي الصغرى على حافة الدرج، كي تأخذ نفسًا من الراحة، ثم تستعيد نشاطها، فما كان من دماثة الرجل صاحب الخلق، إلّا أن خلع حذاءه وهندّمه على الدرج كي تجلس عليه، مخافة الإصابة بالبرد في درجة حرارة ٣! ثم طلب من والدي أن يخرج معه إلى البقالة كي يشتري بعض الحاجيات لمنزله، ويدلّه على مكان كان قد سأله عنه، وفي طريقه، اشترى موزًا وأهداه لوالدي لأنه لم يستطع إكرامه من البيت، وطلب منه أن يدعو له كل صلاة، وخصيصًا في صلاة الفجر، كي ينال رحمة الله وبركة دعاء المسلم لأخيه.

ذاب قلبنا حبًا في دين الله، وخُلق هذا الرجل الأعجمي الكريم الطيّب، وأدهشنا والدي، وهو يقص علينا تفاصيل الحكاية، ونحن نبارك عظمة الدين، وهَدي رسول الله، وهو يؤنسنا حينما قال عن جابرٍ بن عبد الله - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا."

وبصيرة ابن القيم، وهو يدلنا على مسار نور الله: "الدِّينُ كلُّه خُلُق، فمن فاقَكَ في الخُلُق فاقَكَ في الدِّين!" قبل هذه الحكاية، كان قلبنا يرتع في باحة ساخنة من الحنين والوحشة منذ سافرنا، سماء غزة. هذه الحكاية أضافت لنا درجة جديدة من الشوق والحب والتأقلم، وصنع يومٍ جديدٍ مليء بحب العالم وسكانه، والبحث عن بديع خلق الله، روحًا ومكانًا وزمانًا، مؤنسًا، ألِقا في السفر، تشم رائحة الشوق دومًا غير أن هذه الرائحة تقودك إلى الحياة!! وفي الحياة، تتضح معالم الكون وتجاربه، وتفاصيله المسدلة من ستار قدّر الله لنا، أن نزيحه، ونكشف جماله، عبر نعمة السفر.

في السفر، نتعلم حب الاستطلاع، فالأمر ليس بالبعد الذي تستطيع أن تصله، بل بالعمق الذي قد تبلغه في المنجم بقوة السعي، والمبادرة،  وجمال الخيال من وحي المثل الإسباني: "من يقدر على جلب ثروة الإنديز إلى الوطن، عليه أن يحمل هذه الثروة معه".

في السفر، ندرك أن من يوزع الورد على الآخرين، فإن بعضًا من عطر الورد سيلصق بيديه، وينير كيانه ويتوهج حسن صنيعه، راحة وسرورًا أبديًا، وألطافًا إلهية، تحيط به وتؤنسه، وتمده بضمان الله وأمانه وإحسانه. في السفر، قد تفقد كثيرًا من طقوس الأيام الممتلئة بعبق الوطن، غير أنها تعيد ترتيبها وبريقها، فيصبح لطقسك الحديث، معنى ولونًا وقوسَ قزح، نبتَ على غصنِ قلبكَ فاخضَّر، وأزهرَ، وأينعْ.

في السفر، نرى الضوء المتسرب من زوايا اليقين، وقوة الإصرار، ونبع الدعاء، وقنديل البحث، والمغامرة، لنستكشف تفاصيل خلق الله، وحسن صنيع طبيعته، وجودة عمارته، وبهجة سمائه الفاتنة. في السفر، نتعلم حب الاستطلاع، فالأمر ليس بالبعد الذي تستطيع أن تصله، بل بالعمق الذي قد تبلغه في المنجم بقوة السعي، والمبادرة، وجمال الخيال من وحي المثل الإسباني: "من يقدر على جلب ثروة الإنديز إلى الوطن، عليه أن يحمل هذه الثروة معه".

في السفر، تأخذ حكمة إحدى قصائد جون موير: "عندما أستطيع تحرير روحي، سوف أغطس في التيارات المغناطيسية التي تصبُّ في محيط، تلتقي فيه جميع المياه لتُشكِّل روح العالم. عندما أستطيع تحرير روحي، سأحاول قراءة صفحة الخلق البهيّة من أوّلها". وبذلك، تتمكن من معرفة نعمة السفر، وتستطيع الاستمتاع بكل ما تملكه النفس، لتأمين غذاءك الروحي على نحو ممتع عذب، وتشاركه مع الآخرين كي تملأ روح العالم من كنز الامتنان.

ما لا نعلمه عن السفر، محافظته على يقظتنا الذهنية بكل ما يدور حولنا، وخلقِ فن الوعي، بأن تكون مهتمًا وملاحظًا وعميقًا في جوهر الحياة، وبهذا، تستطيع أن تبني ثروة متنامية من معرفة الكون لتمد المدى لعينيك، وبصيرة قلبك ونور عقلك، في وجه أسرار الحياة، بقلبٍ عامرٍ، ومشاعر غنيةٍ، بحب الله وكونه، حيث النور والصفاء واللحظات السامية.