بنفسج

رمضان تونس: قلوبنا فوانيس تبعث حبًا

الإثنين 11 ابريل

يحلّ علينا رمضان، فيتحوّل العالم بين ليلة وضحاها من عالمٍ ماديٍّ وجافّ إلى عالم شاعريٍّ، ذي بُعدٍ روحانيٍّ، أستحيل فيه شاعرة صوفية ومتعبّدة مختلفة وطفلة صغيرة، تركض فرحًا كلّما داعبت أنفها رائحة الخبز حال خروجه من الفرن. يحلّ علينا هذا الشهر الذي قد لا يضاهيه العام جمالًا وسكينةً؛ فتعلّق الفوانيس في القاهرة، وتتلألأ قبّة الصخرة في فلسطين. تصوم فيه عن الألم والأسى كل من الشام وبغداد، وتُفطِر فيه تونس على الحكايات فوق مائدة يجتمع عليها الكبير والصغير، حتّى تدق أبواب روحك كلمات قبل آذان المغرب بلحظات يُقال فيها "شاهية طيّبة للجميع!"

تُنصب الموائد؛ تمرٌ وماءٌ ولبنٌ وحساءٌ، أو شربة، كما نسمّيها، وبريك، وطبق رئيس. وتبدأ رحلتنا الروحانية بسماع قراءة لطفي بوشناق لأسماء الله الحسنى. اللحن ذاته والمشاهد ذاتها، لكنّ اللذة تتضاعف كل عامٍ بتواجد كافّة أفراد العائلة حول طاولة العشاء. تحلّ بعدها أناشيد صوفية للحضرة، وابتهالات زيتونية (لشيوخ الزيتونة)، ومشاهد تعكس ارتباط تون وأهلها بكل التجارب ذات الأبعاد الروحانيّة، مقتطفة من عرض الزيارة. هنا، في تونس، لا تتعلق الفوانيس في رمضان، بل تتعلق قلوبنا فوانيسًا للعائلة والجيران والأصدقاء، وتصير أيّامنا ضربًا من ضروب البهجة والاكتفاء والخيال.

"نا جيت فازع، فازع. قاصِد حرمك، حرمك، تِبْرِي المواجع ويصير قلبي، قلبي بالفرح ناير…" فجأة، يعلو صوت مدافع الإفطار، يليه آذان المغرب. يهبّ الجميع نحو المائدة التي تلوّنت بألوان تونس. وبينما يبدأ الكبار بتناول ما لذّ وطاب بعد أداء الصلاة، أتذكّر حلوى "السردوك" التي تشتهر بها منطقتنا في جنوب تونس، والتي يشتريها الكبار بثمن قليلٍ لإدخال الفرح على قلوب الأطفال طيلة شهر رمضان. ألتهمها بنهم شديدٍ بعد تناول التمر وكوب الماء، مسترجعة ذكريات الطفولة وروحها البريئة، داعية الله أن يغمر جدّي برحمته الواسعة، إذ كان يشتريها يوميًا لي ولبقيّة أحفاده، ثم يوزعها علينا، تاركا قبلة على جبين كل فردٍ منّا.

"صلّي وصوم وخاف ربّي، الحيّ القيّوم غفّار ذنبي، وطريق اللوم خليها غادي، وانسى النِفاق يا أحبابي…" بعد الإفطار، ترى التونسيين منقسمين بين فئة جالسة، تنتظر بثّ أولى حلقات مسلسل تونسي على القناة الوطنية الأولى، وأخرى تجوب أزّقة "المدينة العربي"، وتشرب كأس الشاي في مقاهيها، وبين روّادها، حذو زهر الياسمين، وتحت سماء تونس الساحرة. فئة ثالثة تتجّه قلوبها وأنفسها وأجسادها إلى الجوامع، أين تصلّي التراويح، ثم التهجّد، ورابعة تختار أن تصير بيوتها مساجد، فتصلّي فيها، راجية أن تباركها الملائكة وتهجرها الشياطين.


اقرأ أيضًا: "رمضان جانا": رمضان في مصر المحروسة


لا يأخذ رمضان منحى واحدًا أو صورة واحدة في ذهن التونسيِّ، بل يميل كالخطّ العربيّ بين من يصلّي فوق سجّاد الجامع وبين من يدعو الله، ويقترب منه بلهجة عاميّة بسيطة وصادقة، وهو يعدّ النجوم ويتأمل السماوات، ليصير بذلك هذا الشهر المبارك شهر التسامح والرحمة واللين. بعد رحلة ليلية طويلة بين الشاشة وسجّاد الصلاة والابتهالات والسور والآيات، يقرع المسحراتي، أو كما نسمّيه نحن "الطنڨام/ بو طبيلة"، طبلة ليوقظنا وينقذنا من الجوع قبل أن يتسلّل إلينا نور الفجر من خلال النوافذ. أنغامه التي يردّدها وألحانه التي تفيقنا مباشرة هي صوت رمضان وموسيقاه التي لا تسكت ولا تخمد.

"الله يا لطيف اللطف، الله لا، لا غيرك يُرجى، الله يا لطيف اللطف، الله يا، يا قاضي الحاجة…" في منتصف هذا الشهر الكريم، تفوح رائحة الحلويّات التونسية، هاربة من كل البيوت، منادية للجيران وهاتفة للعيد. تتجمّع العائلات الكبيرة بصفة يوميّة ومنظّمة لتحضير "البشكوتو" و"الغريّبة" و"البقلاوة"، وغيرها من المرطبات. تمتزج الأجواء بضحكات الأطفال والبخور، وتتزيّن الطاولات بالقهوة والمكسّرات والغلال. العائلة ألفة هذا الشهر ونوره، والمحبّة نشيده وصلاته.

"أنا صنعني صانع، حاضر ناظر، صاحب المعروف. والعبد إليه راجع، حنين كريم، هو رحيم رؤوف…" حلّ علينا رمضان منذ أيام، وها نحن نتمنّى أن تتباطأ خطواته، وتقف ساعاته لينأى بنا عن المادّة ويأخذنا في رحلة روحية، فكرية، صوفية تنفخ فينا من روح الله، وتبعث فينا صدقنا وذواتنا التي افتقدناها منذ زمن طويل. حلّ وسيمضي، لتبقى معنا وفينا ذكراه وابتساماته وصلواته وأناشيده الصوفية التي كُتبت في بداية كل فقرة من هذا النصّ، تاركة جزءًا منه في قلب كل قارئ لم يَرَ يومًا رمضان بعيون تونسيّة.