بنفسج

أتكون وحيدًا حين تصحبك الذكريات؟

الأحد 03 يوليو

لا أعلم، لربما قدري أنني لا أجيد الانعتاق من الذكريات لتسقي ما ينضح في داخلي، ظننت أن النضج ذلك الذي أراه عندما أراقب والدي يسقى شجرة التفاح في حديقتنا فتنهض يومًا بعد يوم، ولأنني شغوفة بالطبيعة، أستجلبها في شعوري وتشاطرني قلمي، إلا أنها في النضج شاركتني أقسى ما فيها، شاطرتني جفاء الحرور، ولهيب الانصهار، واهتزاز الرعد، واكتواء الأرض، وزمهرير الثلج، وشطط الشمس، وغضب البحر. 

إنه الثاني من حزيران/يونيو، وقفت الحافلة عند مستقر لا يبعد أمتارًا عن سكني القديم، كان الله قد قدر لي أن أعيش أولى سنوات الاغتراب في ذلك السكن، ثم قدر لنا أن نرتحل عنه إلى سكن آخر، فلم يعد لي قدم إلى طريقه. مشيت في طريقي إليه لحاجة أخيرة من صاحبه، فشددت خطواتي إليه وقبل الوصول بقليل اجتاحتني هالة من الكآبة، ويكأنني أساق إلى حبل يشنق رقبتي، وكما توقعت، اقتربت خطاي لكأنني أصعّد في السماء، اتصلت على الخالة سهى زوجة صاحب السكن، أخبرها بأنني على بعد دقائق من الوصول لديهم. 

 لطالما عشت وراء الباب الموصد ذكريات جميلة مع رفيقات كن لي بعد الأهل أهل، فأحببته بكل زواياه وتفاصيله، أحببت تلك الضحكات الهستيرية التي كانت تصيبنا كل مساء، لربما لطرح ضغط الاشتياق وتورية مواجع الاغتراب. كان الزمان والمكان ينضحان الجمال، لكننا نصر مخالفتهما أحيانًا.

وصلت إلى باب السكن، فتحت البوابة وعلى يسارها الباب، كانت رؤيته بمثابة صفعة مؤلمة تردد ألمها على خدي طيلة جلوسي عند الخالة سهى، قضيت حاجتي عندها وودعتها، ونزلت لأرى الباب تارة أخرى موصدًا، لكأنه شيخ يقف على أطلال الموت.
 هممت بالتقاط صورة للباب كتخليد للحظات الوداع الآخر، فلم أجد أن الأمر يستحق غير المضي فحسب، كنت سأدخل أصلي الظهر فيه، لكنني لم أقتحم شجاعة الدخول، وغادرت مسرعة حتى وصلت مكان الحافلة، ألقيت رأسي على زجاج النافذة حتى غابت أطلال السكن، حتى خرجت الحافلة من مدينة جنين برمتها.

 لطالما عشت وراء الباب الموصد ذكريات جميلة مع رفيقات كن لي بعد الأهل أهل، فأحببته بكل زواياه وتفاصيله، أحببت تلك الضحكات الهستيرية التي كانت تصيبنا كل مساء، لربما لطرح ضغط الاشتياق وتورية مواجع الاغتراب. كان الزمان والمكان ينضحان الجمال، لكننا نصر مخالفتهما أحيانًا. تلك المساءات التي سارت بنا شارع الجامعة مخلفين وراءنا أيامًا مثقلة. تلك المساءات التي نطوف فيها بكل مساء على غرفة إحدانا، نطفئ الأضواء، ولا يبقى إلا نور غرفتنا ساهرًا حتى لا نذر نادرة نتندر عليها في يوم كل واحدة منا، أذكر أنني كنت أضحك من قعر قلبي، حتى أنني كنت أنسى أنني استلمت نتيجة بائسة في امتحان ما. 


اقرأ أيضًا: "إذا فُقِدت عُرِفت": كي لا نعتاد النعم


لم يفزع جلستنا إلا صوت شهيق في غرفة إحدانا ينقض فجأة إلى أسماعنا، فنهرول كلنا إليها حتى نقلب البكاء ضحكًا جماعيًا.
 أما صديقاتي اللواتي وصلن إلى سنة التخرج الأخيرة، ممن يشعرنني بدفء مختلف، كنت لا أجد غضاضة في تقريب المسافات بيننا بعد بضعة أيام من السكن معهن، كن يحتوين حساسيتي المفرطة وبكائي مهما تصاغر سببه.  لم أكن أجد حرجًا من أن أطرق باب غرفة إحداهن لأقول لها أريد أن ننام سويًا، فأنا أشعر بالخوف وحدي، أو أيقظها من نومها لتأتي وتشاركني قلقي، فتبتسم بكل حب واحتواء.

 ولا أكتفي بذلك، فأكلفها مشقة تقريب السريرين لأنني لم أعتد على شح الاحتواء عند الحاجة، فكانت تقربه بكل حب، فتغفو بعد تنغيصة النوم التي سببتها لها، لكنني كنت أكرر ذلك بلا حرج لأنهن يعالجن ضعفي بكل رحمة، بيد أن يدي تأبى إلا أن تذيقها آخر فضول الإزعاج، فأهمس مربتة على كتفها "لا تنامي حتى أنام". من كثرة التعب أحيانًا لا تجيبني، وأحيانًا أخرى تتكبد عناء السهر حتى أنام.

 أشعر قليلًا بها لكنني سرعان ما أغمض عيني وأطمئن. كان اغترابي عن أهلي في ذلك الوقت يتزامن مع وجود أختاي في بيت العائلة: نداء شق من قلبي، ودعاء، فكنت عند عودتي إلى البيت أعوّض الاغتراب الذي عشته طيلة الأسبوع معهن، لكن الأمور سارت بوتيرة مريعة عندما خلا البيت بزواج أختاي __. بت أشعر أنني مجبرة على تصديق عجلة الزمان بمرحلة عنوانها: "سوف تنضجين المسألة مسألة وقت"

 لكن الأمر لم يكن انسيابًا متريثًا، عايشت الغربة مرة أخرى، في البيت كان خلودي للنوم في الغرفة وحدي أمرًا مؤلمًا، وفي السكن كنت أتحاشى الغرف الفارغة بسبب الرحيل.  مجرد رؤية الغرفة بسرير فارغ كفيل بطعن مخرز في بؤبؤاي، فأدخل إليها وأتذكر كل شيء ويكأنه يحدث اللحظة، وكأن حروفنا لا زالت محشوة تحت ثنايا الغطاء وفي لفائف الستارة، فأبكي بحرقة ثم أخرج.

لم يكن لصدع اللحظة من بديل، سوى خيار النضج، أو أنه اختارني إجبارًا ... لا أدري، كل الذي أعرفه أنني فجأة بت قادرة على النوم وحدي من دون أن أكون بجانب لبنى، من دون أن نتجاذب طرائفنا وآلامنا سويًا، بت أجيد الوحدة، وقدر الله أن تدور الأيام وأتخذ غرفة إحدى الصديقات المتخرجات سكنًا لي وأنام على سريرها، وأدفن رأسي في المخدة، أن أقبض على ضلوعي، العجيب أنني لم أقض الليلة وحدي في الغرفة فحسب، بل وحدي في السكن بأسره، لكن حجم الألم طغى على سذاجة الخوف، لأستيقظ في الصباح التالي والشوق إلى الصديقات اللواتي غادرن يلفحني، خبأت شوقي لأنني لا أسر بأوجاعي لأمي كيما يتفشى في صدرها مرارة كسري، هناك شعرت بالتوقيت الفعلي لجملة "رح تخشني بس أصبري شوي".