بنفسج

"انتبه..قرطي يُحّدثك": ساعدني لأسمع جيدًا

الثلاثاء 11 يناير

بحكم عملي كطبيبة في تخصص دقيق للأنف والأذن وهو طب السمع والاتزان، وهو تخصص في الوقت الحالي نادر، واجهت تجاربَ لم أخضها من قبل، ولربما لولا وجودي في السلك الطبي لما تعلمت أشياء عديدة، تعرفت إلى مرضى كثر، ولكن بعض المرضى يعطوننا دروسًا لو عشنا عمرًا بأكمله لن نتعلمها بهذه الدقة، فالتعلم بالتجربة خير معلم. لأخبركم حكاية عن حالة زارتني لأول مرة؛ كانت سيدة أوروبية في العقد الرابع من العمر، اعتادت سابقًا ولفترة طويلة أن تتابع حالتها عند دكتورة أخرى، ولكنها ومن الآن فصاعدًا اختارت أن أكون أنا طبيبتها.

كنت بمقابلها، فتلتقي عيوننا، حدثت نفسي "هل ستكتشف هذه المريضة نقاط ضعفي؟ فهيئتها العامة ومظهرها يحوي بأنها سيدة متمرسة، اعتادت على غرف الأطباء، حتى صادقتهم وكونت علاقات وطيدة معهم". ظننت أنني لن أستطيع مساعدتها ولن أكون سببًا في تحسنها، لم أنس مشاعري وقتها أبدًا، وأدركت حينها أن تلك الأحاسيس كانت متلازمة "المتصنعين"، أو بما تسمى أيضًا "المحتال"، في الواقع، لم تكن تلك المشاعر حقيقية بل هي أبعد ما يكون عن الحقيقة!

تأثرت أنا، وشعرت بالإحباط، لكن قلت لا بأس، سأبدأ الفحص، ولكن إحباطي زاد حين لم تحقق برمجتي لــ"المعينة- السماعة" ما كنت أتوقع، فقد كانت ترتدي "معينة سمعية عظمية" مدى تغيرات برمجتها ليس واسعًا، هنا قررت أن أنصت أكثر، وأعرف ما وراء الكواليس، حاولت أن أرى ما وراء إحباطها ويأسها.

لم أظل في بركان أفكاري وتحليلاتي التي دفعتني لها هيئة السيدة، لذلك لم تدم فترة الصمت طويلًا بيننا، فبدأت الحديث بالإنجليزية لأكسر الجليد ولأعرف بنفسي تعريفًا كاملًا، وفي الحقيقة كانت محاولة مني لتذكير نفسي بأنني أستطيع. سألتها عن أسباب زيارتها وما هي المشاكل التي تواجهها في "معاينتها السمعية"، فأجابت فورًا واشتكت من مشاكل عدة، وأخبرتني عن التحديات التي تواجهها يوميًا، مثلًا حضور الاجتماعات، مشاهدة التلفاز، وجلسات السمر مع الأصدقاء. بدت على ملامحها مشاعر اليأس وقلة الحيلة، وهي تروي لي حكايتها ومعاناتها، فأوجزت ما سبق من حديثها وقالت: "كل شيء مرهق، لقد تعبت، يبدو أنني لن أسمع أبدًا".

تأثرت أنا، وشعرت بالإحباط، لكن قلت لا بأس، سأبدأ الفحص، ولكن إحباطي زاد حين لم تحقق برمجتي لــ "المعينة- السماعة" ما كنت أتوقع، فقد كانت ترتدي "معينة سمعية عظمية" مدى تغيرات برمجتها ليس واسعًا، هنا قررت أن أنصت أكثر، وأعرف ما وراء الكواليس، حاولت أن أرى ما وراء إحباطها ويأسها. اكتشفت من حديثنا أن الحقيقة هي ليست فقط مشكلة سمع بل هو الإحساس بالفشل، خاصة إذا كان الشخص ناجحًا ومحبًا للكمال مثل هذه المريضة، فسيرى في "النقص" الذي لديه تذكيرًا مستمرًا بأن شيئًا ما ينقصه وأنه ليس الأفضل كما يجب أن يكون.

هنا وقفت! قلت لها: هل تشعرين بالذنب؟ هل تشعرين به عند عدم قدرتك على السماع جيدًا في بعض الأحيان؟ عند اضطرارك لطلب تكرار الكلام وتوضيحه ممن حولك في محادثات يومية عادية، أو طلب البطء في بعض الأحيان لتتمكني من تمييز الكلمات. تحدثنا عن هذه الأفكار والمشاعر التي تنتابها في أغلب الأحيان. واستطعت أن أجعلها تعبر عن كل مخاوفها، فعكفت على جعل كل جلسات البرمجة اللاحقة مزيج بين سماع خواطرها والتفريغ عما يجول بداخلها، وبين البرمجة التقنية.

لتعود لي بعد عدة جلسات وفي أذنها حلق صنعته، قائلة من خلاله إنها لا تسمع في هذه الأذن وتضع "معينة سمعية". إشارة منها أنه يجب لمن حولها أن يعرف مشكلتها ويساعدها ويمكنها من السماع. لقد أعطتني المريضة الأربعينية درسًا عظيمًا في معنى الاستحقاق، هي تستحق الأفضل وتعلم ذلك وتمارسه بشكل يومي. منحتها لقب المستمعة الذكية، حيث أنها طورت مهارات تمكنها من الاستماع الجيد أيا كان المكان. فهي لا تمانع أن تطلب من شخص الانتقال من مكانه إلى مكان آخر في الطاولة لتجلس على كرسي يتيح لها السمع بصورة أفضل.

أما فيما يخص شعورها بالذنب، حقيقة نحن من نذنب حين نصعب الأمور على ذوي الاحتياجات الخاصة حياتهم، ونسيئ لأنفسنا ولهم عندما لا نبذل جهدًا كافيًا لإشراكهم. وأقول لأطباء تخصصي وتخصصات تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، إنهم بشر لهم إمكانات لا محدودة، لا تكفيهم أبدًا النظرة الأحادية بتعويض المفقود، لا يكفي أن تزوده بطرف صناعي أو كرسي متحرك وخلافه مما يلزمه. فعندما يفقد الإنسان جزءا من جسده أو وظائفه فإن انعكاس ذلك الفقد على نفسه ربما يكون وقعه عليه أشد. فكما نبذل الجهد في البرمجة والتأهيل والتعويضات الصناعية، لا بد أن تكون نظرتنا لتلك الفئة نظرة شمولية لنفسياتهم وحياتهم اليومية، وأن نستمع إلى قلوبهم قبل أي شيء آخر.

جدير بالذكر أن هناك توجه يدعى الرعاية المرتكزة على المريض Patient Centered Care، ومن الممكن متابعة موقع IDA الذي يحوي الكثير من الأدوات التي تساعد الأطباء على تحسين خدمتهم للمرضى من ضعاف السمع. في النهاية، أشكر تلك المريضة وكل مريض أعطاني من خبرته الحياتية وتجاربه اليومية، فقد عززت تجاربهم ثقتي بنفسي، حيث تعلمت مع مريضتي هذه تحديدًا أنني لن أنجح كطبيبة إلا عندما يتسع إدراكي لمن يزورني في غرفة الفحص، أقرأ ما وراء الإحباطات والآلام، وأن أكون أكثر شمولية، والأهم أكثر إنسانية.