بنفسج

"ماما يا مس؟": حينما أصبحتُ معلمة لأول مرة

الأربعاء 10 يونيو

وما زلت آتي كل شيء بحب وبقلب، ما زلتُ أبحث عن المختلف وغير المعهود، أو ربما أشعر أن مهمتي هي إظهار المخفي والمضمور. في البداية، كتعريف سريع عني؛ أنا صحفية وعملت في مجال الصحافة نحو 5 أعوام، ولكني توجهت إلى تجربة التعليم الذي أنظر إليه كرسالة سامية كما الصحافة، وكل مهنة نأتيها بالقلب لا لغرض المادة فحسب.

 

أتى قراري خوض تجربة التعليم من باب أني أحب التواصل مع الأشخاص وفهمهم وإفهامهم، وشغفي في معرفة تفاصيل المجتمع الذي أعيش فيه، وبحثي في ماهية مجتمع الطلاب والأطفال، زادت رغبتي في ذلك بعد دراستي مرحلة الماجستير بتخصص أقرب ما يكون الى فلسفة الفكر، والوجود والحضور، والعقل والذات والآخر، فلسفة الكون والطبيعة البشرية. بدأت كمعلمة في مدرسة خاصة، لمادة التنشئة الوطنية والدراسات "التاريخ والجغرافيا" لمراحل عمرية متعددة ما بين الـ "8- 13 عامًا"، أي المرحلة التي يكون الطفل فيها في طور التكوين الجسدي والعقلي والنفسي والروحي والاجتماعي والإبداعي.

 

لم أدخل هذه التجربة بدافع التعليم الكتابي فحسب، إنما للتعليم الذي يأتي على شكل التجربة والفعاليات والمواقف. اكتشفت أن الأطفال قادرين على الإبداع إذا أُتيح لهم الدافع النفسي لذلك أكثر من الدافع المادي، بعض الأطفال يملكون أفكارًا وخيالات خلّاقة، يصدمونك في طريقة تفكيرهم، ولكن لديهم مشكلة في التعبير عن أنفسهم، فغالبًا يبحثون عن طرق للفت الانتباه لهم، وبعضهم يخطأ في طريقته ولكن لا ضير، فهو يحوّل الخطأ إلى صواب بالتجربة، باختصار، كُن تنمويًا معهم.

 

 | ماما يا مس

 

رولا.jpg
رولا مع طلابها في المدرسة

أذكر أن طفلة كانت تجلس وتنظر إليّ بشكل مستمر خلال المناوبات، هي ليست من طالباتي، ولكنها كانت تبتسم للطالبات والطلاب الذين يأتون لاحتضاني، في مرة من المرات قررت أن أكسر الحاجز الذي تظنه كبيرًا بيننا، وذهبت للحديث معها، بعد أن تحدثنا لوقت أقل من 10 دقائق، احتضنتني الطفلة بعمق، شعرت أن كل العناق الذي كانت تخفيه في داخلها لي، أظهرته في هذه الحظات، عبرت لي بعيونها وعناقها كم تحبني، وعند كل لقاء معها تأتي مسرعة لاحتضاني، باختصار أيضا، كُن قريبًا منهم.

 

أعتاد في مناداتي للطلبة قول كلمة "ماما"، مثلًا "يلا يا ماما على الطابور، يلا يا ماما أنهِ فطورك، ثم اذهب للعب" في البداية كان الطلبة يستغربون، يقولون لي: "ماما يا مس، كيف يعني!" أرد عليهم بقول: "المعلمة تمامًا كالأمّ"، فبعضهم كلما رآني يقول لي: "صباح الخير ماما" بابتسامة، هذا الأمر يشعرهم بالأمان للمعلمة، الأمان الذي كثيرًا ما يبحث عنه جميعنا ونتمنى أن نظفر به، وفي العالم الموحش الذي نعيشه لا ضير إن كُنّا نحن المعلمين مأوى الأمان لطلابنا. باختصار أيضًا، كُن ركن الأمان لهم.


المعلم، إنسان يُنظر له من مئات الطلبة، عليه أن يكون الإنسان الذي يطمح أن يرى به طلابه ما يريدونه لأنفسهم، ليس من السهل أن نسخّر طاقاتنا الكبيرة نحن المعلمين لفهم طاقات طلبتنا الصغيرة، عالم الطلاب متنوع ومختلف لاختلاف التفكير لدى الجميع، ولكن الاختلاف على اعتباره حالة طبيعية يعطيك دروسًا في الحياة بشكل متعدد، فالطلاب أيضًا يعلّموننا الكثير وليس التعليم في إطار المدارس يقتصر على تلقين المعلم للطالب. باختصار أيضًا، كُن مُعلمًا وطالبًا معهم.

 

أما في قضية العقاب، لا يمكن أن تكون معلمًا وتسير أمور كافة الطلبة على ما يرام بشكل مثالي، أي دون أن تواجه مشكلة مع بعضهم تضطر فيها للعقاب، والعقاب لا يعني أن المعلم لا قلب له، إنما قلبه على الأمانة التي يعمل لأجلها.

لفت اتباهي أثناء قيامنا بفعالية حول التراث الفلسطيني، أن الطالب يبحث عن أستاذ يشبهه، فقررت أن أرتدي في يوم التراث ملابس تراثية لأشترك مع الطالب في ثقافة وطنية لا تقتصر عليه، ولأزرع في نفوس الطلاب أن هذه الفعالية وطنية بامتياز، كلنا نحييها، وكذلك في فعاليات إحياء ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الثانية. والطالب عندما يرى أستاذه يسبقه في إحياء فعالية ما سيتعمق في ذهنه البحث عن ماهية الفعالية أو الذكرى الذي يتم إحياؤها بحب وبشغف، وبحثه هذا سيجعله أكثر تعمّقًا في الأمر. باختصار أيضًا، كُن نموذجًا.

 

كلامي الذي سيقتصر على بعض النصائح، لا يدلل على أن عالم التعليم بالأمر السهل، لا بد أنك ستواجه بعض المواقف الصعبة والحرجة أحيانًا، كأن يأتي طفل وببراءة يكشف أمامك بعض أسرار منزلهم التي عليه أن لا يبوح بها، ستجد نفسك محاطًا بأطفال لا يدركون معنى "الخصوصية"، ستضطر لتكون وعوائلهم كحلقة وصل مستمرة حتى تعالج الأمور وتصل إلى مرحلة يدرك فيها الطفل ماذا عليه أن يقول، وماذا عليه أن يحتفظ به لنفسه وعائلته. وبناء الثقة بينك وبين الطلاب ليس بالأمر السهل ولا بالصعب أيضًا، يمكن أن أقول فيه أنه السهل الممتنع، باختصار أيضًا، كُن تربويًا وليس موضوعيًا.

 

أما في قضية العقاب، لا يمكن أن تكون معلمًا وتسير أمور كافة الطلبة على ما يرام بشكل مثالي، أي دون أن تواجه مشكلة مع بعضهم تضطر فيها للعقاب، والعقاب لا يعني أن المعلم لا قلب له، إنما قلبه على الأمانة التي يعمل لأجلها، والرسالة التي قرر أن يكون قبطان سفينة فيها، تحتم عليه أن يمارس الثواب والعقاب على حد سواء، ولكن علينا أن نعاقب دون أن نكسر، بمعنى نسلك العقاب الذي لا يكسر شيئًا في نفس الطالب أو شخصيته أو سلوكه، إنما يجعله يفكر بخطئه ثم الاعتذار لضمان عدم التكرار، لأن غالبية الإصرار والعناد لدى الأطفال تأتي نتيجة لضرب أو تنمر طالب على زملائه يتسبب به الضرب. باختصار أخيرا، عاقب دون أن تكسر، كُن مُصلحًا في عقابك.