بنفسج

"بعرفش من وين أجتني القوة": نساء على خطوط المواجهة2

الجمعة 30 سبتمبر

تتبع المقالة الثانية ضمن سلسة من المقالات التي تتناول دور المرأة الريفية في الانتفاضة الأولى، وتأخذ من بلدة سلواد نموذجَ الإجراءات العقابية الصهيونية التي واجهتها النساء، أسوة بباقي المنتفضين خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأظهرن خلالها شجاعة وتحديًا في مقاومتها. تسعى المقالة إلى تبيان صنوف العقاب المباشرة وغير المباشرة التي واجهتها باعتبارها جزءًا فاعلًا في الانتفاضة، والتي طالت مناحي الحياة المختلفة، ثم تخصص مساحة لذكر تجربتي الأسيرتين المحررتين آمال حماد و(ح. ح)، وقد اعتُقلتا خلال الانتفاضة الأولى إثر نشاطهما فيها.

| البطش في ميدان المواجهة

silwadd-04.png
الحاجة نجلة عياد تروي ما كانت تفعله قوات الاحتلال في الانتفاضة

واجهت النسوة سياسات الاحتلال العقابية بشكل جماعي خلال الاقتحامات والمواجهات الدائرة بشكل يومي على مداخل البلدة[1] وفي أزقتها، وتعرضها لهذه السياسات في حدث الاقتحام اليومي إن دلّ على شيء فإنه يدل على وجودها في الميدان لا في تقديم الدعم وحسب، بل بالمواجهة. ولم تثنها ممارسات الاحتلال العقابية عن تكرار فعل المواجهة على مدار سنوات الانتفاضة مستعينة بعزيمتها، وبدعم مجتمعي من محيطها في كثير من الأحيان.

أُجبرت النساء على مسح الشعارات التي تحتفي بالانتفاضة، والمخطوطة على الحيطان العامة في الشوارع، وعلى إزالة حجارة السدد الممتدة، خصوصًا بعد جمع قوات الاحتلال للذكور ما فوق سن الخامسة عشر في ساحة المدرسة، وبقاء النساء في البيوت بجانب الطرقات والحيطان. وقد أظهرن شجاعةً في مواجهة سياسات الاحتلال، رافق ذلك تعبيرات سياسية صدحن بها لمجادلة جنود الاحتلال.

 وقد كانت الحاجة نجلة عياد (مواليد عام 1938)، ترفض دائمًا فعل ما يمليها عليه الجنود، فتقول: "بقوا يطيحوا على قاع الدار يقولوا مَرَة قومي أنتِ والحج قيموا الحجار، بقيت أقول له بَحِّر (أنظر) شايف الله فوق وأنت نازل بقيمش (لا أزيل) صرارة، إيدي وإيدك على القنصل تبعك، أنت مش بقوتك استحيلتنا بقوة الأمريكان احتليتنا، أنت برودتك بكتفك أحمي الشارع كنك على قد حالك"، فتهب الحماسة في الشباب المنتفضين فيبدؤون بالهتاف لها تثمينًا لموقفها.


اقرأ أيضًا: قُلن في سلواد: دور المرأة الريفية في الانتفاضة الأولى


نالت النساء نصيبًا من الإصابات بالرصاص المطاطي الذي استخدم بكثافة خلال الانتفاضة، والحجارة الصغيرة (الصرار) الملتهب الذي كانت تقذفه ما تعرف بالراجمة[2]، وتضيف الحاجة خولة حامد (مواليد عام 1946) والسيدة مريم حماد (مواليد عام 1969)، نقلًا عن والدتها الحاجة حليمة حماد (مواليد عام 1950)، أنهن أصبن بالرصاص المطاطي بأكثر من جزء من أجسادهن أثناء مشاركتهن في رمي الحجارة، خصوصًا في اليوم المطبوع في ذاكرة البلدة والمعروف بــ "معركة الجرافة"[3]، حيث أصبن حينها بأكثر من رصاصة مطاطية. وشهدت (ح. م) على إصابة صديقتها (ن. م) بالرصاص المطاطي بالرأس أثناء مشاركتهن في المواجهات، حيث حملتها النسوة وأسعفنها قبل نقلها إلى المركز الصحي في البلدة لتلقي العلاج.

تكررت حوادث الإغارة على البيوت وتفتيشها والعبث بالمحتويات وتكسيرها وسرقة المقتنيات، خصوصًا في أوقات فرض سياسة منع التجول، فتذكر أمال حماد (مواليد 1970) أن قوات الاحتلال اقتحمت بيت العائلة، ولم يكن فيه سوى أخواتها وبنات عمومتها، وقد ضُربن ضربًا مبرحًا: "دخلوا علينا الجيش على البيت جوا وضربونا ضرب مرتب، حتى بطلت أقدر اتنفس، ضربونا بالبارودة، طلبوا منا نطلع نعزّل الشارع، وإحنا رفضنا بالبداية، وقلنا لأختي 13 سنة ضلي عند الأطفال، فدخلوا عندها وضربوها بزيادة لأنهن فتشوا ولاقوها، ضربوها ضرب مبرح". وتذكر (ف. ح) (مواليد عام 1967) أن قوات الاحتلال قد جاءت يومًا لتفتيش المنزل، واكتشفت العائلة حال خروجهم سرقتهم لمبلغ من المال ادخرته العائلة.

| المرأة ومهمات رعاية الأسرة

silwadd-05.png
واجهن النساء معاناة متكررة إثر إصابة أزواجهن وأبنائهن برصاص الاحتلال في الانتفاضة الأولى

رفعت الانتفاضة الأولى من مسؤوليات المرأة داخل أسرتها، نتيجة الممارسات العقابية التي نالت ذكور العائلة، مما أدى إلى تعطيل دورهم بشكل جزئي في أداء مهماتهم الأسرية من إعالة، وكذلك حاجتهم للرعاية الصحية في ظرف الإصابة، أو المتابعة والزيارة في حالة الاعتقال، وتحمّلت النساء في ظل غياب الرجل مهماته، وأثبتت قدرتها على إدارتها وتدبير أمور العائلة في كثير من الأحيان.

واجهت النساء معاناة متكررة بإصابة أزواجهن وأبنائهن برصاص الاحتلال، وقد أصيب العشرات من شبان ورجال البلدة بالرصاص الحي أو شظايا رصاص الدمدم الحارق، وقد كان جزء منها بليغًا بحاجة إلى متابعة صحية وبقاء في المسشفى لفترة من الزمن. وقد كنّ يتكبدن عناء التنقل إلى المستشفى، وتخبئة سبب الإصابة داخل المستشفى خوفًا من اعتقال المصاب في حال علم الاحتلال بشأن الإصابة.

وتروي عزيزة حامد (مواليد عام 1951) عن إصابة ابنها الطفل ذي الثلاثة عشرة عام بشظايا رصاص الدمدم في رجله أثناء المواجهات، وقد كانت المسؤولة الأولى عن أسرتها في ظل سفر زوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد توزعت بين مسؤولية وجودها في المستشفى مع ولدها، ومسؤولية رعاية أطفالها في المنزل، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وصعوبة التنقل.

زد على ذلك، سياسة الاعتقالات المستمرة التي استنزفت العائلة الفلسطينية، وما كابدته النساء نتيجة الاعتقال من غياب جزء أساسي في العائلة، وتحملهن المسؤولية العائلية اجتماعيًا واقتصاديًا بشكل منفرد في حال غياب المعيل لسنوات، وما يفرزه الاعتقال من انقطاع تام عن التواصل قد يمتد لسنوات، ومتابعة متقطعة من مؤسسة الصليب الأحمر، وشح الوصول إلى المحاميين، إضافة إلى العناء الذي يتحملنه في الزيارات إلى السجون البعيدة.

وتردد الحاجة خولة حامد عددًا من الأهازيج التي صدحنّ بها النسوة خلال زيارات ابنها الذي قبع في سجن النقب الصحراوي ثلاثة سنوات ونصف السنة خلال الانتفاضة: "يا يما النقب ما أبعد طريقه.. وإلي خان الوطن ينشف ريقه، يا يما النقب ما أبعد مشواره.. وإلي خان الوطن يخرب داره".

| المرأة في مواجهة الاستدعاء والسجن

silwadd-06.png
واجهت النساء في الانتفاضة الأولى السجن والاستدعاء من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي

إصابة الحاجة حليمة دخلت قوات الاحتلال إلى بيتها، واكتشفوا إصابتها، وكسروا بيتها بعد تفتيشه، وأخذوا هويتها وطلبت للمقابلة في مركز شرطة الاحتلال في رام الله، وبعد تحقيق استمر لساعات أعيدت لها الهوية وعادت إلى منزلها. وكذلك طُلبت الحاجة خولة للمقابلة في مركز تحقيق المسكوبية في القدس للاعتقاد بشهودها على مقتل صهيوني في مقدمة الحسبة في رام الله. وحقق ضابط المخابرات المدعو أحمد معها مدة يوم كامل، تضمنها محاولات للضغط النفسي كإسماعها أصوات وصراخ شديد، ومشاهدتها لشبان يتعرضون للشبح، وإجلاسها في غرفة معتمة لعدة ساعات، في محاولة لإجبارها على الاعتراف، وقد بقيت صامدة على الرغم من كل هذه المحاولات، وأطلقوا سراحها بعد تأكدهم من عدم وجودها في موقع الحدث.

وتروي عن المحقق: "قلي مبين عليتش بدتش تغلبيني (يبدو عليكِ أنك سوف ترهقيني)، دَقَ على الجرس إجا واحد أخذني وحطني بهالغرفة، وأنا قاعدة بالغرفة، يجيبلي أصاويت: يا مشان الله ساعدوني، وأنا أقول من وين هذي الأصاويت، قعدت ساعة وإجا (أي المحقق) طلعني. (تقول له): قلت لك أنا ما طلعت على رام الله من مرة نهارها، قال لي طيب بدتشيتش (لا تريدين)؟، قام قعدني أزود من ساعة -في الغرفة-، رد رجعني، قال لي: بدناش نريّح بعضنا، قلت له: آه، قال لي: مين قتله، قلت له: أنت قتلته".

أما حدث الاعتقال فقد طال أنذاك عدد من الشابات اللواتي كنّ دائمًا في ميدان المواجهة عرف منهنّ: أمال حماد، و (ح. ح) و(ن.م). وتروي ح.ح (مواليد عام 1970) عن اعتقالها في الثامن من آذار/مارس في عام 1989، فتقول: "بقيت عندي دفتر، وأسجل شعارات الانتفاضة فيه، فإجوا يعتقلوا أخوي، فتشو لقو الدفتر ومكتوب عليه اسمي، وحققوا معاي هان بالدار وأبوي حضر التحقيق، وأخذوني على رام الله، وبعدين أخذونا على سجن أبو كبير في "تل أبيب" لأنه السجون ملانة. بقت معاي بالسجن خالدة جرار، وقعدت 13 يوم، وفلتوني".

"قالوا لي أمال تعالي معنا، حطوني بغرفة بدار عمي، كانوا 7 محققين وبقية أهلي ودار عمي حطوهن بغرفة لحالهن، بدأوا المحققين كانت معهن وحدة قاعدة ما كانت تحكي، مجرد تحضر التحقيق، كل واحد يسأل سؤال، أنا بعرفش من وين إجتني القوة، بقلهن إذا بتظلوا تسألوا بالطريقة هذه مش راح أجاوب."

أما أمال حماد (مواليد عام 1970) التي اعتُقلت في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1990، على خلفية تهتمي الحيازة، والانتماء إلى حركة فتح، وحكمت 10 أشهر و1500 شيكل غرامة، بعد تثبيت التهمة الأولى وإسقاط الثانية، حيث اقتحمت قوات الاحتلال منزلها وطلبت هويات الإناث، وبعد أن احتجزوا هويتها.

تقول: "قالوا لي أمال تعالي معنا، حطوني بغرفة بدار عمي، كانوا 7 محققين وبقية أهلي ودار عمي حطوهن بغرفة لحالهن، بدأوا المحققين كانت معهن وحدة قاعدة ما كانت تحكي، مجرد تحضر التحقيق، كل واحد يسأل سؤال، أنا بعرفش من وين إجتني القوة، بقلهن إذا بتظلوا تسألوا بالطريقة هذه مش راح أجاوب، أنا صحيح عندي ذانتين بس بتسمعش إلا واحد، يعني بنت صغيرة تسعة عشر سنة تحكي لسبعة محققين هيذ، لما شفت وجههن عرفت إني عملت اشي، إنه هذه المفروض تبقى ميتة خوف مش هيذ تحكي، بدأوا يسألوا، وبدنا الأمانة وبدنا كذا، وفتشوا الدار ولاقوا إلى بدهم إياه، خلوني بالبيت وقالوا لي بترجعي بتواجهي عنا بعدين، بس الصدمة كانت كبيرة، بعد ما طلعوا لقيت حالي قاعدة على الأرض والكل على الكنبايات".

silwad7.png
تعرضت المرأة الفلسطينية للتضييق في جولات التحقيق معها في الانتفاضة الأولى

تكمل عن السياسة التي اتبعها الاحتلال معها في جولات التحقيق كان أساسها الضغط النفسي، بإشهادها الاعتراف عليها، وبإسماعها أصوات قريبة لأشخاص يتعذبون دون رؤيتهم، وإيقافها أمام شبان مشبوحين لفترة من الزمن، ومقابلتها للعصفورات، بالإضافة إلى جولات التحقيق التي تتراوح بين أسلوبي القسوة واللين المتعمد في محاولة لتحصيل الاعتراف، وكذلك محاولة المحققين لتمثيل مسرحية مفادها أن والدتها قد توفيت بعد أن ساءت حالتها وهي تنتظر ابنتها أمام السجن.

بقيت آمال في زنازين المسكوبية ما يقارب الستة والأربعين يومًا، حيث كانت الزنازين تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فتقول عن المسكوبية "كان الوضع تعيسًا، كل يوم فيها كان دهرًا من العذاب، الأكل كان صعبًا، التخوت كانت صبّة باطون"، وساعدها في التعامل مع ظروف السجن القاسية قراءتها في أدب السجون وتقول "كان عندي خلفية منها كتاب دروس من المسيرة الثورية، فادني كثير". وكذلك تذكر وسائل الصمود التي انتهجتها الأسيرات لقتل الوقت: "كنا نعمل مسابح من الزيتون، ونحفر على معجون الأسنان من جوا، وكنا نسمع الآذان من الأقصى كان يعطينا راحة نفسية".

قضت آمال في سجن تلموند محكوميتها، وتروي أن الأسيرات تميزن بوقوفهن وقفةً واحدة، وأنهن خضن خطوات نضالية، منها الإضراب عن الطعام والزيارة، رفضًا لعزل الأسيرة عاهدة جمهور. تولت أمال مسؤولية المكتبة وقد عملت بجد على تصنيفها وقد اعتُقلت أثناء دراستها لتخصص اللغة العربية في جامعة القدس. وقد رفضت أمال دفع الكفالة في تعبير عن موقف مبدأي وقضت محكوميتها دون دفع الكفالة: "قلت للمحامي أنا قاعدة بأوتيل عشان أدفع 1500 شيكل؟ القضية كانت قضية مبدأ".


اقرأ أيضًا: "فاطمة ريما": أيقونة ثورية وحب فطري للمقاومة


 وعن تحررها تقول: روحوني بعد 11 شهر، طلعنا وكانت فرحة لا توصف، بعدها الواحد يبدأ في معاناة المجتمع، ومواجهة النظرة، قضية إنك تبقي بالشارع وتحطي سدد وحجار كانت تختلف عن الواحد يبقى في السجن". وقد واجهت صعوبات في إكمال تعليمها الجامعي، وفي توظيفها، لكنها تغلبت عليها، وروت قصصها وهي تجلس خلف مكتبها مديرةً لمدرسة بنات سلواد الثانوية.

واجهت المرأة الفلسطينية سياسات الاحتلال التي طالت الشعب الفلسطيني لاستنزاف عنفوان الانتفاضة وانتشارها، وتدلل هذه الممارسات العقابية التي تعرضت لها عن فعاليتها في صناعة حدث الانتفاضة اليومي، فالاحتلال لم يفرق في لحظة القمع بين ذكر وأنثى. وعلى قدرتها -مسنودةً من المجتمع- في تحمل تبعات الممارسات العقابية اليومية، كما أن الفطرة الصادحة برفض الاحتلال هي من دفعت النسوة إلى المشاركة في فعاليات الانتفاضة، فقد غلب على أغلبهن أنهن لم يكنّ بصدد الفعل الوطني المنظم، بل العفوي المدفوع، بالرغبة الجامحة لمقاومة الاحتلال وتحديه.

ويظهر النص ملامحًا لنظرة المجتمع أنذاك التي كانت ترحب بالمشاركة الميدانية للمرأة في الفعاليات الجماهيرية اليومية، لكنها تتحفظ إلى درجة ما على العمل ضمن نطاق منظم ما فوق المشاركة في المواجهات والمسيرات، ويؤول إلى مصائر مثل الاعتقال. يعكس ما سبق أيضًا أن للمرأة الفلسطينية الريفية الشابة هامش معتبر من الانخراط في الشأن العام، بعكس ما تروج له الكتابات الاستشراقية التي تفترض أن الفتيات الريفيات كن طوال الوقت محجوزات وممنوعات من المشاركة في الشأن العام، وهذا مرتبط بإرث سابق حيث شاركت النساء بشكل كبير في الاعمال الاقتصادية خارج المنزل في الزراعة على سبيل المثال، كما أن ضرورات مقاومة الاحتلال ساهمت في توسيع هذا الهامش.


| المراجع

[1] تضمنت المقالة الأولى تعريفًا ببلدة سلواد.

[2] ويسميها أهل البلدة الغولة أيضًا، وهي آلية كبيرة الحجم تطلق بواسطة فوهة صرار ملتهب، وفي أوقات أخرى رصاص مطاطي.

[3] تمكن أهالي البلدة في اليوم المشهود بتاريخ أوائل نيسان/أبريل 1990 من جر قوات الاحتلال وجرافته ومحاصرتها وإمطارها بالحجارة، موقعين بها خسائر مادية وإصابات في الجنود بعد عدم تمكن الآليات من إيجاد مخرج.