بنفسج

"في الانتفاضة سكروا المدارس": تكامل مجتمعي بجهود النساء [3]

الأربعاء 24 اغسطس

تُعالج المقالة الثالثة من سلسلة مقالات دور المرأة الريفية في الانتفاضة الأولى: سلواد نموذجًا، دور النساء السلواديات في التأسيس لمقاومة شعبية في مواجهة الاحتلال الصهيوني أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وتبيِّن بالشواهد دورهن في تشكيل حالة من اللحمة والتماسك الاجتماعي اللافت، والتي عاشتها بلدة سلواد خلال الفترة ما بين (1987-1993)، وكيف حاولن، جاهدات، المساهمة في ابتكار حلول خلاقة للمشكلات المجتمعية التي تولدت بفعل سياسات الاحتلال الوحشية. وكيف أدى ذلك إلى ظهور صور من المقاومة المجتمعية التي سارت جنبًا إلى جنب مع المقاومة في الميدان، ووفرت بيئة مناسبة، تغلّب فيها السلاودة على الاستنزاف المتواصل لطاقاتهم وإمكانياتهم، ودفعوا باتجاه استمرار مظاهر الانتفاضة في بلدتهم رغم التراجع العام الذي أصابها بعد مؤتمر مدريد.

قامت النساء بأدوار مهمة في توطيد حالة اللحمة الاجتماعية وزيادة فاعليتها، وشغل ذلك حيزًا من ذاكرتهنَّ الجمعية. كما أن هناك دورًا آخرًا مميزًا قامت به ثلة من نساء البلدة، ويستحق أن يُسلط عليه الضوء، وهو مشاركتهن الفاعلة في التعليم الشعبي داخل المساجد، والذي انتشر في المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية ردًا على إغلاق الاحتلال المدارس.

| التكاتف المجتمعي وقت الانتفاضة

silwad3-2.png
لقد كان التكاتف والتعاون الاجتماعي في الانتفاضة الأولى أولوية وأظهرت النساء تعاطفًا كبيرًا

أظهرت النساء في المقابلات حنينًا للماضي الاجتماعي بشكل كبير، وعبرّن عنه بمواقف مشابهة في المجمل تدل على مدى التعاون والقرب الاجتماعي الذي تمتع به مجتمع الانتفاضة، خصوصًا في الحالات التي يرتقي فيها أحد الشهداء، فذكرت أغلبهن حدث استشهاد الشهيد الأول في سلواد محمد عثمان فارس الذي احتجز الاحتلال جثمانه ما يقارب الثلاثة أيام، ثم سلمه في فترة متأخرة بعد منتصف الليل، ولم تهدأ البلدة ولا نساؤها آنذاك، وجابت المسيرات شوارعها.

 فتقول مريم حماد: " بقى في عونة وتكافل أزود من اليوم، اليوم في تكافل، بس الناس مطفية. لما استشهد محمد عثمان كل الناس راحت عندهن. لما استشهد عبد الرؤوف محمود حامد بقي منع تجول، النسوان ما قدروا يطلعوا بنفس اليوم بس بعدها طلعوا". وتقول إخلاص حماد عن الحدث: "انتشرنا في الشوارع، ووصلنا الوسطية في مسيرة، وأخته كانت معانا".

أمدت النساء في أيام المواجهات ولياليها المنتفضين بالطعام والشراب بشكل مستمر، فلم تبخل عليهم بسُفَر الطعام المتواضعة على الرغم من أن الأسر الريفية عانت من ركود اقتصادي في غالب الأحيان بعد أن تعطّل كثير من الناس عن أشغالهم، خصوصًا وأن عددًا من النساء لم يخرجن من بيوتهن ولازمن عائلتهن، لكنهن حاولن تقديم يد العون بشكل أو بآخر. تقول إخلاص حماد: "بقينا نُجهِّز غداء ويوخذولهن على المفرق (مكان المواجهات مع جنود الاحتلال على المدخل الجنوبي لسلواد)".


اقرأ أيضًا: دور المرأة الريفية في الانتفاضة الأولى: سلواد نموذجًا المرأة في مواجهة بطش الاحتلال


وتعقّب خولة حامد: "يوم بقوا (كانوا) يسهروا (أي الشبان)، بقوا يقولوا بدهن يقتحموا البلد الليلة، يظلوا الشباب طول الليلة يسهروا. كل وحدة من الحارة، أنا عندي شوية، هذيك عندها شوية، تودي لهالشباب، نسويلهن سندويشات، نوديلهن إياهن، بقوا الناس أصيلين في حق بعضهن". وتضيف (ف.ح): بقت كل البلد إيد وحدة، يطعموا بعض، بقينا بالليل نعمللهم شاي وخبز مع زتون، وزيت وزعتر، بقينا ما نعز على الشباب، نعطيهم حرامات يتغطوا". وتقول (ح.ح): "لما يكون في منع تجول ويتفرقوا الشباب في الجبال، يجو في الليل يوخذوا أكل من الدُّور، بقينا نشارك في هذا الاشي، يجو أخوتي ونعطيهن إلهن وللشباب".

أمدّت النساء أنفسهن بوسائل الصمود والثبات بما عبّرن عنه في أغانيهن التي أبدعنها، وكنّ يكررنها هنّ والمجتمع بشكل عام تعبيرًا عن الحالة السياسية والاجتماعية. وفيها ما يعبر عن شقاء التواصل وصعوبته، فتنشد الحاجة خولة حامد أغنية عن مشقة السفر لمن يريد أن يأتي من الغربة ليتزوج إبّان الانتفاضة: "ولك يهودي لا تفتش شنتاتي.. وأنا عريسي مروح على خواتي، ولك يهودي لا تفتش الجيبة.. وأنا عريسي مروح من الغيبة". وتتبعها بما كان مجتمع البلدة يصدح به في ليالي السهر لحراسة البلدة ترقبًا لاقتحامات قوات الاحتلال المفاجئة: "بدهن يقتحموا البلد.. سهرنا طول الليل تنحافظ على كرامتنا.. مهما الليل طويل". وعن التشجيع على المقاومة ورفض العمالة تقول: "فردك يا هذا حطه بالسلة.. هذا للشرف ما هو للذلة". وتضيف (ف. ح): "خبطت على أذيالي وانكب الرز.. راسك يدحل قدامك ياللي بتوز".

| مدارس شعبية: التعليم في زمن الانتفاضة

silwad3-3.png
شهدت العملية التعليمية انقطاعات مستمرة في الانتفاضة الأولى بسبب تضييق جنود الاحتلال

شكلت بوابة مدرسة بنات سلواد منطلقًا للمسيرات التي خرجت بها الطالبات دعمًا وإسنادًا للانتفاضة الأولى خصوصًا في الأيام التي صادفت مناسبات وطنية، تقول أمال حماد عن أختها التي كانت طالبة في المدرسة أنذاك أنه كان يُعلن الإضراب في أيام المناسبات الوطنية، فتخرج الطالبات من المدرسة إلى المواجهات، دون تمكن المعلمات والمديرة من إرجاعهن، وتكمل: "أكثر من مرة تسألها (أي أختها) أمي ليش إيدك محروقة، تقول لها طبَّت فيّا غلاية البطاطا، وهي بتكون من قنابل الغاز وهي ترجع فيها".

شهدت العملية التعليمية انقطاعات مستمرة، وكان التحدي الأبرز من نصيب طالبات الثانوية العامة اللواتي كنّ يكملن تعليمهن في مدرسة عين يبرود الثانوية لعدم وجود مدرسة ثانوية للطالبات في البلدة أنذاك، فبالإضافة إلى الطريق المحفوفة بالمخاطر، ابتداءً من طريقة الوصول إلى المدرسة مشيًا على الأقدام بعد تعطل حركة السيارات وانحسارها، يرافق ذلك ممارسات الاحتلال المباشرة، فتذكر إخلاص أن جيب الاحتلال كان يقف دائمًا أمام بوابة المدرسة أثناء تقديمهن امتحانات الثانوية العامة.

silwad8-1.png
عانت النساء من الاعتقالات المتكررة في الانتفاضة الأولى

وتروي (أ. ع) حادثة جرت في العام 1989، وهي طالبة في الثانوية العامة، وقد اقتحم جيش الاحتلال بلدة عين يبرود بعد خروج عدد من طالبات المدرسة في مظاهرة: "صاروا يقولوا اليهود البنات إلي مش من عين يبرود يطلعوا هي الباصات بستنوا فيكم، إلا لقينا الجيش عند الجامع (على الشارع الرئيس) قالولنا أقعدوا، صفونا على الحيط، وصاروا ينقوا، زي حدرة بدرة، أنتِ تعالي وأنتِ تعالي، أخذونا وقتيها على مركز الشرطة في رام الله بعدين على المسكوبية، وبالمسكوبية ما رضيو يستقبلونا، وصاروا ينزلونا وحدة وحدة يحققوا معها، وقعدنا ليلة كاملة بالباص وروحونا ثاني يوم الصبح، ودفعونا 80 دينار كفالة على كل وحدة".

قد ساهمت هذه التجربة في إثراء عملية التفاعل الاجتماعي من خلال التعليم غير الرسمي، وكذلك في تصعيد دور المسجد باعتباره مركزًا مهما للنشاط الديني والاجتماعي والتعليمي، وقد تواكب ذلك مع صعود دور التيار الإسلامي في الشارع الفلسطيني في تلك الفترة.

وبعد انقطاع التعليم في المدارس وقد استمر سبعة أشهر، ظهرت مبادرات مجتمعية من عدد من الشابات الجامعيات والمتخرجات من الثانوية العامة لتعليم الطالبات في المراحل الأساسية في مسجدي البلدة (المسجد الشمالي والجنوبي). وقد ساهمت هذه التجربة في إثراء عملية التفاعل الاجتماعي من خلال المدارس الشعبية والتعليم غير الرسمي، وكذلك في تصعيد دور المسجد باعتباره مركزًا مهما للنشاط الديني والاجتماعي والتعليمي، وقد تواكب ذلك مع صعود دور التيار الإسلامي في الشارع الفلسطيني في تلك الفترة.

وعن هذه التجربة تقول كريمة حامد أحد المعلمات اللواتي أشرفن على تعليم الطالبات في المسجد الجنوبي: "كنا أول إشي نقرأ قرآن في المسجد، بعدين بالانتفاضة سكَّروا المدارس، إحنا أكمن بنت كنا نقرأ قرآن بالمسجد قلنا شو رأيكم نصير ندرّس، يجوا هالبنات ونعمل نشاطات، نعمل لهن حفلات وفيها فقرات في المناسبات، ونعمللهن حلقات، ندرسهن قرآن أول إشي، بعدين رياضيات، وانجليزي كانت تدرسهن زينب لإنها دارسة بأميركا، والعدد صار كبير، مع إنه كان ممنوع ندرّس".

silwad33.png
شاركت النساء في الانتفاضة الأولى بكل شيء بلا استثناء

استعرضت المقالة جانبًا من مجتمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهو مجتمع اتسم بالقوة والقدرة على مواجهة التحديات، وقد شكَّلت نساؤه جزءًا فاعلًا داخله، حيث تحملن المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية والوطنية بكل أمانة وإخلاص، وقد عمل الاحتلال ووكلاؤه على ضرب هذه الصورة في فترة ما بعد أوسلو بكل الوسائل، منها إغراق المجتمع بالسياسات الليبرالية ثم النيوليبرالية الاقتصادية، والتي انعكست على الحالة الاجتماعية والثقافية، وأحدثت تحولات في البلدات الفلسطينية الثائرة على المحتل، حيث انتشرت فيها مظاهر المجتمع الاستهلاكي - الفردي، والذي تزداد فيه مكانة الهموم المادية الشخصية، وتتراجع فيه الهم الوطني العام، ويتم فيه تحجيم دور المؤسسات الأهلية بما فيها المراكز الثقافية، وينعدم فيه الدور الفاعل للمؤسسات الدينية خصوصًا المسجد.

حاولت سلسلة المقالات السابقة، رؤية الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عيون النساء الفلسطينيات اللواتي كنّ فاعلات في صناعة حدثها اليومي، ومارسن فيها أدوارًا مختلفة، ووثقت ذلك بالاعتماد على التأريخ الشفوي، بمقابلة إثنى عشرة إمرأة من نساء البلدة، في سبيل إنعاش الذاكرة الفلسطينية بالراوية الشفوية للريفيات، وفي سبيل استخلاص العبر من فاعلية مجتمع الانتفاضة بشكل عام وأدوار النساء في تلك المرحلة بشكل خاص.