بنفسج

"اطبش واهرب": نساء على خطوط المواجهة 1

الأحد 24 يوليو

هذه المقالة هي الأولى من سلسلة مقالات تستهدف تسليط الضوء على دور المرأة الريفية في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)[1]، وتتتبع الأدوار النضالية التي تصدرت لها في تلك المرحلة، وتتخذ من بلدة سلواد[2] نموذجًا دراسيًا، وتفترض أن المرأة الريفية كانت مشاركا رئيسا في صناعة حدث الانتفاضة اليومي. تنطلق الورقة من ضرورة دراسة التاريخ من الأسفل، أي دراسة تاريخ الناس العاديين الذين لم يتبوؤوا مناصبًا مهمة في العمل السياسي أو التنظيمي، ولكنَّهم انخرطوا في الجو النضالي العام، ولم تعرهم الدراسات أهمية كبيرة، وكانوا منسيين في زحمة الكتابات عن الفئات القيادية أو تلك المدينية.

كما أنهم أيضًا قُدِّموا من قبل الدراسات الاستعمارية والاستشراقية بصورة مضللة، خصوصا المرأة التي تم حصر دورها في نطاقات معينة غالبا ما تكون بعيدة عن المقاومة بأشكالها المتعددة[3]. تعتمد هذه المقالة والتي تليها على المقابلات الشفوية مع عدد من نساء بلدة سلواد، وتستخدم تقنية كرة الثلج التي تبدأ من إجراء المقابلات مع المعارف ثم تتجاوزها من خلال التدليل على عينة أوسع للمبحوثات. خُصصت هذه المقالة لتناول مشاركة المرأة في الفعل النضالي المباشر أثناء الانتفاضة الأولى.

| " كُنا نخيط علام وندق على عواميد الكهربا" 

inbound8811695284155204911.png
أشرفت النسوة  على حياكة الأعلام الفلسطينية من قطع القماش المتوفرة في المنزل

شاركت المرأة الريفية في المواجهات التي كانت تدور مع قوات الاحتلال، وكانت حاضرة في مرحلة التحضير، ولأن المرأة المقاومة ابنة بيئتها وجغرافيتها فكانت تجمع الحجارة[4] وتضعها في أماكن محددة سلفًا، وكانت تضع البصل في الأوعية المجوفة التي عادة ما تستخدمها في غسل الملابس، أو في الكُفَفْ وهي أوعية جلدية مجوفة، أو في حجورهن وهنّ يرتدين الأثواب، وساهمت في إعداد الحواجز الحجرية أو ما عُرف شعبيًا بالسدود وهي عبارة عن حجارة كبيرة غالبًا ما تؤخذ من  حجارة السناسل "الجدران الحجرية الاستنادية" الممتدة على جنبات الطرق، وتُصف على شكل عدة طبقات في منتصف الشوارع لإعاقة مرور آليات الاحتلال العسكرية.

تتحدث الحاجة نجلة عياد (مواليد عام 1938) وهي شاهدة عيان على المرحلة الأولى من الانتفاضة، ومشاركة فاعلة في أحداث الانتفاضة، حيث كانت تندلع المواجهات قرب بيتها: "بقينا نطلع أنا وجارتي قبل ما تطلع الشمس نُحضِّر الحجار ونحطهم على البِرْكَة ونجهزهم، ومن السنسلة إلي قبال الدار نحط الحجار الكبار بالشارع سد عالي، والحجار الصغيرة للضرب".


اقرأ أيضًا: هادية السعافين: تؤرخ للتغريبة والنضال في "الفالوجة" المهجرة


أشرفت النسوة على حياكة الأعلام الفلسطينية، التي كانت حيازتها تهمة يُعاقب عليها الاحتلال. كنّ يقطِّبنها أي يقمن  بحياكتها عن طريق القطب على أيديهن من قطع القماش المتوفرة في المنزل، أو بحياكة منظمة للأعلام من قماش مخصص يطلب منهن إعداده لاستخدامه في جنازات الشهداء على وجه التحديد، حيث تروي السيدة مريم حماد (مواليد عام 1969) وقد كانت تعمل في مخيطة في رام الله " بقينا نعمل أعلام من الشرايط 40 سم ومن أمور الدار، بس من الشغلات الرسمية بقوا يجيبوا ونخيّط أعلام في البيت مترين ونص"، بالإضافة إلى تجهيز جماعي من شابات الحارات والمدارس لأكاليل الورد التي كانت تستخدم في جنازات الشهداء وتوضع على أضرحهم[5].

| كل الأعمار بتشارك.. ولكل واحدة شغلة بتعملها

inbound3658032748672215509.png
اشتهرت النساء بالقرع على أعمدة الكهرباء لتعرف الأهالي عن تواجد قوات الاحتلال في البلدة

ومع دخول قوات الاحتلال البلدة، اشتهرت النساء بالقرع على أعمدة الكهرباء وهي وسيلة التواصل التي تعارف عليها الأهالي للإعلام عن تواجد قوات الاحتلال في البلدة، وكان يشارك في ذلك الكبار والصغار، والنساء والرجال، وقد اشتهرت حادثة المرحومة فاطمة أم عزيز (كانت في السبعينيات من عمرها في حينه) حين ألقت قوات الاحتلال القبض عليها وهي تقرع العامود فجرًا، فاعتقلوها، لكنها تمكنت خلال اقتيادها بالقرب من موقع احتجاز الشبان داخل البلدة من الهرب والاختباء في أحد البيوت القريبة.

غالبا ما كانت تبدأ المواجهات بالقرب من مدخل البلدة الجنوبي في حي الوسطية، ثم يحاول المتظاهرون جرّ قوات الاحتلال إلى وسط البلدة حيث الأمكنة المناسبة لرشق الاحتلال بالحجارة والزجاجات الفارغة، وقد اعتاد الشبان التمركز على تلة تطل على  الشارع الرئيسي على بعد أمتار من مقر البلدية تدعى (دار الوَرّايات)، وقد يستمر الأهالي في استدراج جنود الاحتلال إلى البلدة القديمة حيث أزقة الحارات الضيقة والطرق المتفرعة، الأمر الذي يمنح المقاومين أفضلية في معركة تقوم أساسا على استراتيجية " اضرب واهرب".

inbound6576523468709722194.png
شاركت النساء في المسيرات التي كانت تجوب شوارع البلدة على مدار الانتفاضة

 وقد شهدت المواجهات تواجدا لافتا لنساء البلدة، وفعالية عالية، فتقول الحاجة انجهاد حامد (مواليد عام 1948) "بقيت أقول لأولادي راجمو، بقينا نطبشهن عند دار أبو الورايات، بقيت أوخذ أبني على حضني وأطبش"، وتصف السيدة إخلاص حماد (مواليد عام 1972) تواجد الشابات في المواجهات الدائرة في حارات البلدة وطرقها الفرعية، على أنه تواجد لشابات يسكنّ في نفس الحارة حاولن التواجد بشكل جماعي حالما سنحت الفرصة، لكنه بقي جهد فردي غير منظم.

 كما تذكر السيدة مريم أنها كانت بعد عودتها من عملها في رام الله تشارك المنتفضين ذكورًا وإناثًا في رمي الحجارة في المواجهات المندلعة في أول البلدة على الرغم من أن منزلها في أقصى البلدة، وقد شددت كل النساء اللواتي تمت مقابلتهن على أن فعل المشاركة في المواجهات كان رائجًا ومدعاة للفخر في ظل جماهيرية الانتفاضة ووجوب التضحية.

كما شاركت النسوة في المسيرات التي كانت تجوب شوارع البلدة على مدار أيام الانتفاضة، وقد شهدت المسيرات تواجد لشابات ونساء البلدة بشكل كبير حيث كررت النسوة التي تمت مقابلتهن أن أعدادهن كانت تتجاوز 200 أنثى، بينهم نساء طاعنات في السن، وشابات يافعات، وكنّ يرددن هتافاتهن المنتفضة، إلى جانب ذلك، اشتهرت النسوة في تلك الفترة بفعلي المراقبة والإرشاد.

inbound8566994198525613251.png
ساهمن النسوة في مساعدة الشباب وتخليصهم من أيدي الجنود

 فتذكر (ا.ع) التي كانت تسكن في بيت يقابل ساحة المواجهة الدائرة على مدخل القرية أنها كانت تتمركز على سدة البيت العالية وتراقب تحركات الاحتلال، محذرة الشباب من الكمائن، ودالةً لهم على أماكن تواجد الجنود وخط سيرهم، كذلك اشتهرت النسوة بمحاولاتهن المستمرة بتخليص الشبان من أيدي جنود الاحتلال، وكنَّ ينجحن في خداع الجنود، وسحب الشبان من بين أيدهم، بحجج من قبيل أنهم أمهاتهم، وكن يتظاهرن أحيانا بأنهن مريضات وبحاجة إلى مساعدة الشبان الذين هربوا توًا من قوات الاحتلال.

 بالإضافة إلى ذلك فقد فتحن بيوتهن دائمًا لإخفاء الشبان الهاربين من قوات الاحتلال، وقد ساعدت هندسة المنازل القديمة في ذلك، خصوصا وأن سقوفها متلاصقة، وتحوي من داخلها الأقبية والطوابين[6]، وتذكر (ف.ح) عن والدتها: " بقت أمي تخفي الشباب في القبو ورا براميل الجفت، يصيروا يفتشوا ويدوروا وما يلاقوا، وبقت تغيرلهم أواعيهم عشان ما يعرفوهن".

| ريفيات في الواجهة 

inbound8739429675583998221.png
خلال الانتفاضة الأولى شغلت المرأة الفلسطينية أدوارًا ريادية في المقاومة

شغلت المرأة أدوارًا ريادية في المقاومة خلال الانتفاضة الأولى، التي عرفت بجماهيرتها الكبيرة، والمشاركة الواسعة من كافة شرائح المجتمع، وبدا ذلك ظاهرًا في تواجد المرأة في أغلب حيثيات المواجهة في البلدة، ولا بد من الإشارة إلى أن المشاركة لم تكن متكافئة عددًا ودورًا مع شبان ورجال القرية، لكنها كانت موجودة وفعالة بحيث لا يمكن إلغاؤها أو عدم اعتبارها، والأهم من ذلك أن مشاركتها كانت دارجة، ومُرحب بها في غالب الأحيان، وبدت كأنها واجبة في أيام الاشتباكات الكبرى.

 فالفعل النضالي التحرري له انعكاساته الاجتماعية، حيث يتيح للمرأة المشاركة والفاعلية والتأثير، فالنساء الريفيات على الرغم من بساطة مجتمعهن وعدم دراية غالبيتهن بحيثيات الانتفاضة ومآلاتها السياسية، وتواضع تحصيلهن الأكاديمي أدركن أهمية أدوارهن وحاولن استثمارها، إلى جانب اتصافهن بصفات الشجاعة والمبادرة، وعلى النقيض فكلما خبا الفعل النضالي انعكس سلبًا على المرأة ونشاطها المجتمعي، فبدت صورتها تلك غائبة نسبيًا عن حاضر المجتمع الفلسطيني ما بعد أوسلو، الذي تزعزعت فيه الأواصر الاجتماعية المتينة التي تميز بها المجتمع الفلسطيني أنذاك، وخضع لسياسية قمع جماعية لأي فعل مقاوم جماعي.


| المراجع

[1] شكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987 محطة مفصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية الشعبية للاحتلال الصهيوني في الأرض المحتلة، وقد جاءت نتاج تحولات نضجت مع الزمن، وقد توحد الشعب الفلسطيني خلالها على انهاء الاحتلال. وتعددت أسشاليبها ووسائلها النضالية، واستمرت حتى توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول عام 1993.

[2] بلدة سلواد: تقع بلدة سلواد شمال شرق مدينة رام الله، وإلى الغرب من تل العاصور، وترتفع 900 متر عن سطع الأرض، ويوجد فيها ثلاثة عائلات رئيسية وهي: حامد وحماد وعياد، وبلغ عدد سكانها في تعداد عام 1996 ما يقارب 6000 نسمة، وفي عام 2017 ما يقارب 6487، وتحتوي البلدة على عدد من المرافق مثل المدارس والمساجد ولها بلدية وعدد من المؤسسات الخاصة والأهلية. عرفت البلدة بمشاركتها الواسعة في حقب المقاومة الفلسطينية المتعددة، حيث شكلت نموذجًا رياديًا بين نظيراتها من بلدات وقرى شرق رام الله.

[3] للاستزادة بالإمكان مراجعة: أميرة محمد سلمي، عن النساء والمقاومة، الرواية الاستعمارية (رام الله: مواطن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2009).

[4] كانت الحجارة السلاح الأبرز في الانتفاضة الأولى حتى أنها سُميت بانتفاضة الحجارة.

[5] ارتقى اثناء الانتفاضة الأولى عدد من أبناء سلواد، بلغ عددهم سبعة شهداء، وكان أولهم الشهيد محمد عثمان فارس الذي ارتقى عام 1988

[6] الطوابين هي الأفران المنزلية يدوية الصنع ذات تجويف معيّن، والأقبية هي أبينة قديمة تستخدم لحفظ المونة الزراعية السنوية.