بنفسج

"فدوى طوقان" تؤرخ الحياة النسائية في رحلتيها الصعبة والأصعب

الإثنين 21 يونيو

تتوقف هذه الورقة عند السيرة الذاتية التي خطتها الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في كتابين؛ صدر الأول في عام 1985 وتناول حياتها منذ طفولتها. حيث ولدت طوقان في عام 1917 وتوفيت في عام 1967. أما الثاني، فيتناول حياتها ابتداءً من عام 1967 وانتهاءً بالانتفاضة الأولى. كما أنني ألخص وأحلل ما جمعته فيهما من تفاصيل غزيرة حول حياتها الاجتماعية، ورحلة بحثها عن ذاتها، وصوتها الأدبي، ومبادراتها وإنجازاتها (رحلة جبلية رحلة صعبة). إضافة إلى إلقاء الضوء على علاقتها بالحياة السياسية ومواقفها الوطنية (الرحلة الأصعب، 1993) حيث أن كلا الكتابين يستحقان الوقوف والتأمل للإضافة النوعية التي قامت بها طوقان أثناء توصيفها الحياة الفلسطينية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.

| سيرة  غنية

الشاعرة  فدوى طوقان من مواليد نابلس عام 1917، تربت في عائلة عريقة إقطاعية، كان لها دور كبير في الحياة السياسية الفلسطينية أثناء الحكم العثماني، وأثناء الانتداب البريطاني. تلقت تعليمها في المرحلة الابتدائية في مدارس نابلس، وكان في نابلس آنذاك مدرستين مختصين بتعليم البنات فقط، إلا أنها تركت الدراسة في المدرسة في سن مبكر جدًا، إثر عقوبة فرضها عليها شقيقها الأكبر يوسف.
 
واسـتأنفت الدراسة بطرق عدة، لاحقًا، سواء في البيت على يد أخيها إبراهيم طوقان، نُشرت لها العديد من الدواوين الخاصة وتُرجمت إلى العديد من اللغات، إضافة إلى العديد من القصائد والأشعار التي كانت تنافس المجلات والصحف العربية. بدأت بواكير نشاطها السياسي تظهر في مشاركاتها في المراكز الثقافية منذ عام 1956 كـ (النادي الثقافي المختلط)، إلا أن هذه المشاركات ظلت محدودة ومرتبطة بالسياق السياسي العام.

الشاعرة طوقان من مواليد نابلس عام 1917، تربت في عائلة عريقة إقطاعية، كان لها دور كبير في الحياة السياسية الفلسطينية أثناء الحكم العثماني، وأثناء الانتداب البريطاني. تلقت تعليمها في المرحلة الابتدائية في مدارس نابلس، وكان في نابلس آنذاك مدرستين مختصين بتعليم البنات فقط، إلا أنها تركت الدراسة في المدرسة في سن مبكر جدًا، إثر عقوبة فرضها عليها شقيقها الأكبر يوسف. واسـتأنفت الدراسة بطرق عدة، لاحقًا، سواء في البيت على يد أخيها إبراهيم طوقان، أو في مدارس وجمعيات في القدس التحقت بها، فيما بعد؛ لتقوية لغتها الإنجليزية، إضافة إلى دراستها في بعض المؤسسات التعليمية البريطانية لمدة عام في إنجلترا وهي في الأربعينات من عمرها.

نُشرت لها العديد من الدواوين الخاصة وتُرجمت إلى العديد من اللغات، إضافة إلى العديد من القصائد والأشعار التي كانت تنافس المجلات والصحف العربية. بدأت بواكير نشاطها السياسي تظهر في مشاركاتها في المراكز الثقافية منذ عام 1956 كـ (النادي الثقافي المختلط)، إلا أن هذه المشاركات ظلت محدودة ومرتبطة بالسياق السياسي العام. وتكمن أهمية هذه الدراسة، كونها من الكتب القليلة التي تناولت السيرة الذاتية لشخصيات نسائية فلسطينية. فرفوف المكتبات لم تبخل بعرض كتب السير الذاتية التي دوّنها مثقفون فلسطينيون أمثال عارف العارف، وخليل السكاكيني، وراغب النشاشيبي وغيرهم.

فدوى وابراهيم.jpg

أما الأقلام النسائية فلم تكتب كثيرًا، وما كتبته دوّن بصوت خافت، وعلى استحياء. وفدوى من القليلات اللواتي استطعن كسر حاجز الصمت؛ إذ قامت برصد تفاصيل حياتها في هذه المرحلة التاريخية المهمة من تاريخ فلسطين، ابتداء بمرحلة نهاية الفترة العثمانية، ثم الانتداب البريطاني، ثم الاحتلال الإسرائيلي والذي يتجلى في الأحداث الكبرى، من النكبة وانتهاء بالنكسة (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985).

استكملت طوقان تسجيل تفاصيل حياتها وصولًا إلى الانتفاضة الأولى (طوقان، الرحلة الأصعب سيرة ذاتية 1993). أما البعد الأهم في هذه السيرة، فيكمن في الأسلوب الذي استخدمته فدوى في تدوينها، فهي، وتحديدًا في الكتاب الأول، لم تقم بتدوين حياتها الشخصية وحسب، وإنما قامت بجهد يصلح تصنيفه كأحد أشكال التاريخ الاجتماعي لمدينة نابلس؛ لغزارة وقوة ما فيه من تعقيدات حياتية اجتماعية غائبة تمامًا عن الأنظار. وهي تفاصيل الحياة النسائية والاجتماعية داخل أسوار قصور الأسر الإقطاعية الفلسطينية العريقة الموجودة في المدينة. ومن خلال أوراقها استطعنا فهم واقع النساء، وثنائية الحداثة والتقليد القائمة في علاقة الرجل بالمرأة، والتعليم، وتطور الحياة المدنية، ومظاهر الاحتفالات إضافة إلى الطبقات الاجتماعية والعلاقة بينها.

| حياة النساء في نابلس منذ عام 1917

نابلس.jpg
النساء في نابلس قديما

لوصف شكل الحياة النسائية داخل جدران قصر طوقان تشير فدوى إلى كلمة (الحريم)، ولهذه الكلمة رمزية خاصة ارتبطت دومًا في مضمون تراثنا العربي بأوصاف كثيرة، أبرزها "الانغلاق". أما لدى فدوى، فقد حملت هذه الكلمة أو الحالة، دلالات أكثر ظلامية مثل "الخضوع"، "القهر"، "ضياع الذات". فحجم  الحرية التي استطاعت النساء امتلاكه في تلك المرحلة كان محدودًا جدًا. وتوجه رجال العائلات الكبرى في المدن الجبلية كنابلس والخليل كان منصبًّا على فصل النساء في المجالس، وتقنين حركاتهن، ونشاطاتهن خارج المنزل.

وقد كانت عدد الزيارات التي يُسمح فيها للنساء بالخروج من المنزل لا تتجاوز المرة كل شهر أو شهرين، تسير فيها المرأة مع مجموعة، ولمكان معروف، كزفاف أو حفل خاص أو مناسبة اجتماعية كبيرة. ولم تخرج فدوى عن هذه القاعدة، فلم يكن يُسمح لها بالخروج وحدها، ودومًا، هناك رفيق أو رقيب أو زمرة من النساء، لذا، فقد كانت عملية الخروج لسويعات تمثل بالنسبة لها الحرية بعينها: "كان الإحساس بالحرية والانطلاق بعيدًا عن جو البيت الأثري المختنق بالمحظورات وبالأوامر والنواهي التي لا أول لها ولا آخر، كان ذلك الإحساس بالحرية يملؤني بفوحان الحياة". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 45).

تصف فدوى حياة المرأة في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين بأنها لا تقتصر فقط على تقنين الحركات الخارجية فقط، بل طبيعة الحياة داخل البيت الكبير، لا يتجاوز دور المرأة فيها إعداد الطعام وتنظيف المنزل، دون أي طموحات مهنية أو أدوار اجتماعية فاعلة، وقد استخدمت أثناء توصيفها لوضع النساء في بيتها استعارات لاذعة تحمل حنقًا وغضبًا واضحين: "حظيرة كبيرة تملؤها الطيور الداجنة.

تصف فدوى حياة المرأة في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين بأنها لا تقتصر فقط على تقنين الحركات الخارجية فقط، بل طبيعة الحياة داخل البيت الكبير، لا يتجاوز دور المرأة فيها إعداد الطعام وتنظيف المنزل، دون أي طموحات مهنية أو أدوار اجتماعية فاعلة، وقد استخدمت أثناء توصيفها لوضع النساء في بيتها استعارات لاذعة تحمل حنقًا وغضبًا واضحين: "حظيرة كبيرة تملؤها الطيور الداجنة، يلقى إليها بالعلف فتزدرده دون نقاش، راضية قانعة به، وكان ذلك غاية الغايات ونهاية النهايات". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 133).

أما هامش الحرية البسيط المتوفر للنساء، فهو معطى لممارسة بعض الأدوار الدينية، وهي ممارسات كانت دومًا أدوارًا مجزؤه وغير ناضجة. وقد جسدت شخصية "الشيخة"، المرأة التي قامت بفهم ودراسة الدين على يد شيخ صوفي، ثم توجهت نحو تعليمه لنساء البيت الكبير، تحولت بعدها لدور المسؤولة عن "ضبط" سلوك النساء وضمان التزامهم بقوانين الحشمة العامة. لم تتلمذ هذه الشيخة إلا على يد شيخ واحد، ولم تقرأ سوى قراءات بسيطة وغير معمقة، ومع كثرة الامتيازات التي حصلت عليها كونها "شيخة"، جعل سلوكها في هذا الجانب يأخذ الحد المتطرف على الصعيد الانضباطي، وهو ما دفع فدوى إلى كره هذا النموذج، أو نفورها منه.

| الرحلة الأصعب

لم تخل المدينة من بعض المتعلمات، إلا أن: "الصفة العامة للنساء في ذلك الحين هي أمية العقل،...وكان هناك قلة قليلة ممن أكملن تعليمهن في (دار المعلمات) الحكومية في القدس، وكان أعلى مستوى في دار المعلمات هو الثاني الثانوي". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 115). والعدد القليل من النساء اللواتي تعلمن في نابلس، كن اجتماعيًا بأفضل حال، ولهن هوية مهنية، إلا أنهن لم يكن يربطن بين المهنة وعملية التثقيف والتطوير الفكري المستمر، وبالتالي، حتى هذه الشريحة المتعلمة من النساء والواعية بأهمية وجودها.

 لم يكن لها هم سياسي أو مجتمعي يقض مضجعها ويجعلها تحمل لواء التغيير. وهذا ما جعلها تزداد ألما بسبب إلحاح والدها على الكتابة في السياق السياسي والوطني بعد وفاة شقيقها إبراهيم طوقان، وعجزها عن القيام بذلك، ليس فقط كون الطلب والدافع لم يكن داخليًا، وإنما وكما تشير في عدة مواضع لأنها تفتقر إلى أبعاد النضج الفكري وفهم المكونات المجتمعية. فهي امرأة لا تخرج، ولا تختلط، ولا تتقن أدوات قراءة المجتمع الفلسطيني: "مع ذلك الوضع المعزول كليًا، والمفروض على النساء في البيت، لا غرابة في أن يخلو جو الدار النسوي من أي وعي سياسي أو اجتماعي". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 133).

إضافة إلى افتقارها للانتماء في ذلك الحين إلى جماعة تفكر معها وبها ومن أجلها: "كنت أتمنى بصدق لو تظل السياسة جزءًا دائم السخونة في تفكيري، لو أستطيع الانضواء إلى أحد الأحزاب التقدمية، لو أخلص من هذا التمزق الدائم بين فرديتي وبين عواطفي الشعبية، التي تستيقظ فقط في المناسبات المتأججة". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 150)، فهي قابعة هناك في "قصر الحريم"، لم تكن متحررة اجتماعيًا ولم تملك القدرة على إدارة أمور حياتها، فكيف تكتب حول التحرر السياسي والوطني.

مدرسة الفاطمية فدوى.jpg
مدرسة فدوى طوقان

وهو الحال الذي تغير معها تمامًا كما تغير في المدن الفلسطينة بعد النكبة، وأحداث عام 1948. فهذا التوقيت، بكل ما يحمله من مصائب، صاحبه تغيرات كبرى في شكل الأنظمة السياسية والاجتماعية. وتغير معه دور وقوة وحظوة العائلات الكبرى أيضًا، مما انعكس على المجتمع بشكل عام، والمجتمع النسائي بشكل خاص، جعلها أكثر تحررًا؛ كازدياد المشاركة النسائية في الميادين والأعمال، والمجالس الثقافية، وتحديدًا دور السينما والحفلات.

من فتاة لا تملك القرار في الخروج إلى المنزل، إلى فتاة تعيش بمفردها في الأربعينات من عمرها، تحول كبير، عاشته وأعربت عنه كثيرًا في كتابها الثاني، مشكلا حالة أشبه بـ "الخروج من القمقم". وهذه الكتب بالرغم من وصفها له بأنه "الرحلة الأصعب" لم يعد يمثل في طرحه تلك التحولات الاجتماعية ويتحدث عنها، فقد تغيرت معركتها بتغير مكان إقامتها ومستوى انخراطها الكثيف بالواقع العام، وأصبحت تدرس فيه شكل علاقتها مع السياسية والشخصيات الفاعلية أدبيًا وسياسيًا. كما تغيرت كتاباتها الشعرية والتي امتزجت في دواوينها الاخيرة بالنفس الوطني والسياسي، بعد أن كانت دواوينها الأولى مغدقة في الذاتية وهمهمات النفس والشاعرية.

| ثنائية التقليد والحداثة في المدن الفلسطينية

المجتمع الفلسطيني أو النابلسي، كما تصفه فدوى مجتمع يتداخل فيه التقليدي مع الحداثي بشكل يثير الكثير من التناقضات والتساؤلات. وقد تبدو هذه الثنائية قائمة بشكل واضح في علاقة الرجل بالمرأة في تلك المجتمعات، وهي أكثر وضوحًا في حديثها عن العلاقة بين الجنسين، أكثر من توصيفها لحياة المرأة وحدها، والتي تتسم حتمًا بسمات التقاليد الاجتماعية التقليدية. أما الاختلاف، فيبدأ بالظهور في توصيف طوقان لمدى اهتمام العائلات الكبرى بإرسال أبنائها للدراسة في المدارس الأجنبية داخل فلسطين، ومن ثم الجامعات الغربية، مع الإبقاء على رفض تعليم الفتاة أكثر من الصف الخامس الابتدائي في مدينة كنابلس، لا تملك سوى مدرستان للإناث فقط. وهذا وضع تتسم به مدن دون أخرى -حسب اعتقادي- كنابلس والخليل، وليس المدن الساحلية كيافا وحيفا وعكا، أو حتى القدس ورام الله، وتبدو حينها هذه المدن أكثر حداثة وانفتاحًا فيما يتعلق بحياة النساء، وعلاقة الرجال بالنساء آنذاك، كما ورد في مذكرات السكاكيني والنشاشيبي وغيرهم. (تماري 2005) (ديفيس 2002).

سجلت فدوى بعض الامتيازات الاجتماعية الذكورية التي يحصل عليها أي شاب ذكر موجود في العائلة، كقدرته على أخذ قرارات مصيرية فيما يتعلق بحياة شقيقته، كما حدث في قرار شقيق فدوى يوسف حين منعها من الخروج للدراسة وهي فتاة صغيرة لاشتباهه بوجود اتصال بنيها وبين شاب صغير يقطن في حيهم. وعدم قدرة أي أمرأة كالأم، عن ثنيه عن هذا القرار، حتى وإن كان من غير علم الوالد، والذي لم يتساءل يومًا لم هي موجودة في البيت، ثم لم يكترث للتوقف عند الإجابة.

مشهد آخر جسدته في وصفها لحب والدها للموسيقى، وامتلاكه بعض الآلات الموسيقية ورفضه في نفس الوقت سماع أي معزوفة منها، أو السماح لها بامتلاك آلة موسيقية، مما دفعها لاستخدام آلة العود سرًا فقط، وتقول متهكمة: " كان الغناء ووجود آلة عرف في البيت من الممنوعات، غير أن وجود الفونغراف كان مباحًا". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية.

مشهد آخر دونت تفاصيله عام 1939، وهي لم تبلغ بعد عمر العشرين، المتمثل في اعتراض بعض رجال عائلتها على موافقة والدها على قرار أخذها دروس خاصة باللغة الإنجليزية مع فتاة تخرجت من مدرسة "الشميت"، معتبرين أن هذا التصرف لا يتناسب ووضع العائلة : "لقد كانوا يرتدون الزي الأوروبي، ويتكلمون التركي والفرنسية والإنكليزية، ويأكلون بالشوكة والسكين، ويقعون في الحب، ثم يقفون بالمرصاد كلما حاولت إحدانا تحقيق إنسانيتها عن طريق التطور الطبيعي أو التطلع إلى الأفضل والأحسن". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 97).

فدوىى.jpg
فدوى طوقان

مشهد آخر جسدته في وصفها لحب والدها للموسيقى، وامتلاكه بعض الآلات الموسيقية ورفضه في نفس الوقت سماع أي معزوفة منها، أو السماح لها بامتلاك آلة موسيقية، مما دفعها لاستخدام آلة العود سرًا فقط، وتقول متهكمة: " كان الغناء ووجود آلة عرف في البيت من الممنوعات، غير أن وجود الفونغراف كان مباحًا". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 81). وعاتبة أحيانًا تقول: "ما دام يحب الطرب، فلماذا يحرمنا من العزف والغناء؟". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 81). ولم تر في تفسيرها لهذه الأحداث سوى أن رجال العائلة والمجتمعات الفلسطينية يعيشون في تلك الفترة في حالة انفصام بين المسموح والممنوع، فما يسمح للرجال يمنع عن النساء، بلا أي مبرر عقلاني: "العجز العربي عن الاحتفاظ بشخصية غير مشطورة".

وقد جعلها هذا الفصل والقسوة الكامنة بين الطرفين، تستنكر أو تستغرب من أي موقف مضاد يشكل نوعًا من الاحترام والتقدير لها ولإنجازاتها. فقد وصفت شقيقها إبراهيم بعد عودته من الدراسة في بيروت بأنه: "على غير عادة رجال الأسرة، كان يجلس معنا نحن -أمه، وشقيقاته- يبادلنا الحديث، ويحكي لنا عما جرى ويجري من شؤونه". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 61). وعندما عرض عليها أن يقوم بتدريسها الشعر ونظم القوافي قالت: "مع وجه إبراهيم، أشرق وجه الله على حياتي". (طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية 1985، 60).

| الطبقية في المدن الفلسطينية

نابلس22.jpg
نابلس قديما

الطبقية والفروقات المجتمعية كانت حاضرة في الكتاب وبشكل جليّ؛ يذهب أولًا الأغنياء بحقائب جلدية وأولاد الفقراء بأكياس من قماش. يأتي السقاء إلى بيوت الناس لبيع الماء ولا يهب إلى قصور الأغنياء الإقطاعيين، فلهم حصصهم الخاصة بهم من الينابيع، وقنوات خاصة تحت الأرض لإيصال الماء إلى بيوتهم في البركة التي تقع وسط المنزل الكبير. منزل الإقطاعيين صاخب بعاملات يأتين للمساعدة في أعمال المنزل والتربية، ولهم غرف خاصة للمكوث بها أيضا، كـ "السمرة" التي قامت بتربية فدوى. ويُنظر لهذه الفئة بنظرة متعالية؛ إذ لا تتردد سيدات البيت الكبير عن إظهار مشاعرهن الدونية للعاملات في المنزل.

المنزل الكبير أيضًا، صاخب بالوافدين من القرى، وهم الذين درجت العائلة على التعامل معهم أثناء نظام الأعشار التركي، وقد كانت عائلة طوقان من العائلات "الملتزمة" بجباية الأعشار من الفلاحين إلى الدولة التركية لسنوات طوال، جعلت المكانة الاجتماعية وشبكة العلاقات يُعاد إنتاجها بشكل متواصل اثناء مرحلة الانتداب وحتى عام 1948 بأشكال مختلفة. خصوصًا وأن هذه العائلات الكبرى حافظت على وجودها السياسي في الدولة بعد انتهاء هذا النظام، وبعد الإصلاحات التركية النظامية التي قامت بها الدولة العثمانية، فأصبحوا هم أيضًا ممثلي الحزب الوطني، ولهم مواقفهم السياسية الخاصة حول دعم شخصيات فلسطينية رمزية وإقصاء أخرى.

ثمة فرق طبقي آخر ينعكس في حياة النساء في العائلات الثرية، كونها أكثر قمعًا وانغلقًا منها في العائلات الفقيرة. وقد ظهر ذلك في الحمامات النسائية العامة، بما فيها من اختلاف بالمعاملة والسلوك أيضا بين النساء. وقد ظهر هذا الفارق -في عيون فدوى- كبيرًا بين نساء المدينة ونساء القرى، خصوصًا بعد عام 1936. فهي ترى آفاقا أكثر حرية وقدرة على التعبير لدى نساء القرى منه في المدينة. وإن اكتفت نساء العائلات بالتعبير عن مواقفهن النضالية من خلال الكتابة والانضمام لعضوية بعض الجمعيات الخيرية، لم تتردد المرأة القروية أن تكون جزءًا من العمل الثوري نفسه، تشارك وتساعد بيدها وليس بلسانها وقلمها فقط. ثم هي فاعلة في الحياة الاجتماعية، ومشاركة في المناسبات الرسمية والموسمية بشكل لن تراه في نساء المدن، والكتاب صاخب بمفارقات من هذا القبيل، تعبر عنها فدوى في غبطة تصل حد الحسد حول شكل حياة المرأة الريفية آنذاك.

| بين كتابها الأول والثاني: أي الكتابين جسّد الرحلة الأصعب؟

كتب.jpg
كتب فدوى طوقان

الكتاب الأول؛ كتاب تداخلت فيه همهمات النفس الأنثوية التي تعيش ثنائية القمع والتمرد داخل أسوار المدن الفلسطينية المحافظة، مع شكل الحياة اليومية الاجتماعية في تلك البيوت، كما المراحل التاريخية وأثرها على هذا السلوك الانساني، والذي بدا يتغير مع كل مرحلة سياسية تمر بها فلسطين، واكبت بينها وبين شكل تحرر المرأة وتطور طبيعة ملبسها وسلوكها ونظرتها عن حياتها والمجتمع من خلاله، إضافة إلى أمور أخرى.

أما الكتاب الثاني، وقد كتب عام 1993، ظهرت فيه فدوى مكتملة النضج الفكري، واضحة الحياة والملامح، فتنازلت عن أسلوبها القديم الذي حمل تناقضات محطات طويلة من الزمن، وشرودًا ذاتيًا، صارعت فيها القيود الاجتماعية، وصارعت ضعفها الداخلي الذاتي، لتتحول في الكتاب الثاني إلى الشاعرة السياسية الملتزمة، والتي تسعى من خلال أشعارها إلى تسجيل مواقف سياسية ووطنية، فأخذت تستعرض ملامح حياتها، هي، بمعزل عن حياة المجتمع الاجتماعية، واتجهت نحو حياة النخبة المثقفة لتصف علاقتها معهم وبهم. هذا التغير في الأسلوب كان الأفقر بتفصيلاته الاجتماعية التاريخية لنا نحن القراء، بعد أن أذهلتنا في كتابها الأول تفاصيل التاريخ الاجتماعي من داخل قصر طوقان التاريخي الكبير، فقد اعتدنا أن نجول معها داخل الأروقة، وفهمنا شكل العلاقة الوالدية، وحياة الناس المصاحبة لحياة القادة البرجوازيين والإقطاعيين.

غاب الحس التأريخي التفصيلي في كتابها الثاني، ولم يشتمل سوى على هدف خفي بدى لي مهمًا للكتابة، وهو مواقفها السياسية، وطبيعة النشاطات واللقاءات التي كانت تقوم بها بحكم اسمها وكتاباتها. فاحتوى الكتاب على الكثير من التبريرات لمغامرات سياسية قامت بها كشخصية فلسطينية اعتبارية تواجه تحديات سياسية، مثل مقابلتها مع موشيه ديان، ومقابلاتها مع عبد الناصر والسادات، والرسالة التي طلب منها ديان إيصالها إلى ياسر عرفات.

قبر فدوى.jpg
فدوى طوقان

إضافة إلى العديد من المقابلات الصحفية العالمية التي توقفت عند هذا الحدث، والتبعات السياسية الشعبية المصاحبة لتلك الزيارات، والتي كما يبدو، أن وجدت فدوى نفسها بحاجة إلى توضيحها للعامة على أعتاب دخول المنظمة الفلسطينية، حين إعداد الكتاب في عام 1993، في مرحلة مفصلية من تاريخ فلسطين وتوقيع اتفاقيات اوسلو. فبدى وكأن فدوى الآن مهتمة بتوضيح موقفها السياسي ومشاركاتها وتصوراتها للقضية، وشكل التسوية المطلوبة، أكثر من التوصيف الاجتماعي لتغير شكل الحياة بعد عام 1967، وقد كُتب في ذلك الكثير، حتى لم يعد هناك فارق بين ما كتبت هي وما كتب غيرها من المثقفين والسياسيين.

الإبداع في حياة فدوى مرتبط بشكل كبير بالقهر والحرمان، فكلما زادت التحديات التي تواجه قدرتها على التعبير عن نفسها، أوجدت لها مسارات جديدة لانتزاع حقها في الحياة التي تراها لنفسها. أما عندما غابت علاقات الشد والجذب في كتابها الثاني، ظهرت حياتها بعد النجاح حياة متوقعة المراحل، كما هي حياة النخبة المثقفة، ولم تعد برأيي، رغم أهميتها، تمثل الصراع الذي نبحث عنه ليعبر عن ذواتنا في مذكرات من نقرأ.


| المراجع

[1]  روشيل ديفيس. "نمو الجوالي في القدس الغربية 1917-1948." تأليف القدس 1948 الأحياء العرية ومصيرها في حرب 1948، بقلم سليم تماري، 45-87. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.

[2]  سليم تماري. الجبل ضد البحر. رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2005.

[3]  فدوى طوقان. الرحلة الأصعب سيرة ذاتية. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1993.

[4]  رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1985.