بنفسج

متلازمة العريس المغترب

الأربعاء 08 مارس

توقفت اليوم عند بعض الأفكار التي ناقشتُها مع صديقة لي تكرر رفضها للكثير من الشبان المتقدمين للزواج منها، مع العلم أنهم من أفاضل الشباب خُلُقًا وعلمًا، ولكن لا يحقق أيًا منهم مواصفات العريس المثالي الذي تبحث عنه، والذي تبين لي بعد حوار طويل معها أنها تفضّل أن يكون مغتربًا يعمل ويسكن خارج الوطن. بدا الأمر مفاجئًا لي في بداية الأمر، لكن لم يطل استغرابي، لأنني قابلت قبلها الكثير من الفتيات اللواتي ينظرن إلى الزوج المستقبلي بنفس النظرة ويتطلعن إلى الزواج على أنه بِساط علاء الدين الذي سيحملهن خارج ضيق الأوطان إلى رحاب الغربة ورفاهية العالم المتقدم.

يبدو التفكير مقبولًا في ظاهره، إلا أنني أراه تراجعًا حضاريًا كبيرًا يَمسّ حرمة الزواج وقدسيته ويعتدي على مفهوم الأسرة العربية الذي عهدناه متماسكًا وراسخًا، ويَمسّ الفطرة الطيّبة التي خُلق الزواج لأجلها وهي الألفة والمودة والرحمة بين الشريكين. إلا أنني، وإنصافًا لهذا الأمر، أرى أن تفكير الفتيات بالنسبة للعريس المغترب ينقسم إلى فئتين فيما يخص وجهات النظر والتطلعات الكامنة خلف هذه النظرة للزواج وللزوج بحد ذاته.

 ترى بعض الفتيات أنَّ تجارب أمهاتهن أو أخواتهن ممن سبق لهن الزواج صعبةً لا تقدر عليها فتيات الجيل الحديث، وفيها بعض الظلم أو الضغط الاجتماعي على المرأة وحريتها وخصوصيتها، لذلك تفضل الفتيات الزواج من شاب مغترب تجنبًا وهروبًا من الكثير من العادات الصعبة أو التقليدية.

 الفئة الأولى لديها الكثير من القصص والتجارب والمقارنات التي تجعل الزواج من شاب يسكن وطنه أكثر صعوبة ً وتحديًا، نظرًا لتدخل الأهل والأقارب في حياة الزوجين وفرض النظام الاجتماعي الخاص بكل من عائلة الزوج والزوجة على الشريكين الجديدين، مما يقلل من فرصة فهم كل منهما للآخر أو تقبله كما هو. وإنما يبدو الزواج المحلي نمطًا مجربًا مسبقًا نظرًا لوجود العادات والتقاليد التي قد تحجّم فرص التغيير أو التجديد في الحياة الزوجية الجديدة.

 كما ترى بعض الفتيات أنَّ تجارب أمهاتهن أو أخواتهن ممن سبق لهن الزواج صعبةً لا تقدر عليها فتيات الجيل الحديث، وفيها بعض الظلم أو الضغط الاجتماعي على المرأة وحريتها وخصوصيتها، لذلك تفضل الفتيات الزواج من شاب مغترب تجنبًا وهروبًا من الكثير من العادات الصعبة أو التقليدية.

وبين تطلعات الفئة الأولى وخيالات الفئة الثانية يضيع جوهر الزواج ويُهمّشها الذي هو أولى خطوات بناء الأسرة، وإنشاء جيل صحي من الأبناء والبنات. إن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، اشترط في قبول الزواج صفةً واحدةً لدى الشباب (إذا جاءَكُم من ترضون دينه وخُلُقَه فزوّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض).

أما الفئة الثانية من الفتيات فتنظر للزواج على أنه بطاقة اليانصيب الرابحة التي يجب أن تحقق بها الزوجة أعلى قدر من السعادة والرفاهية والراحة، فالعريس الذي يعمل ويسكن في إحدى الدول الأوروبية أو الأمريكية فهو عريس "مَكسَب"، سيوفر لزوجته جميع مظاهر الترف والغنى والسفر، وسيجعل منها أميرة مدللة وضيفة شرف دائمة تحلّ على أهلها ووطنها، حيث تغار منها الصديقات وتحسدها الفتيات لحياتها المخملية مع العريس المغترب الذي وبفضله أصبحت في طبقة اجتماعية أرقى ومستوى عائلي أكثر احترامًا.

وبين تطلعات الفئة الأولى وخيالات الفئة الثانية يضيع جوهر الزواج الذي هو أولى خطوات بناء الأسرة، وإنشاء جيل صحي من الأبناء والبنات. إن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، اشترط في قبول الزواج صفةً واحدةً لدى الشباب (إذا جاءَكُم من ترضون دينه وخُلُقَه فزوّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض). واشترط في النساء ما ورد في حديثه، عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك).


اقرأ أيضًا: مصريّ وفلسطينية ... ماذا عن الزواج العابر للقطرية؟


إذن، فأصل القبول والرفض هو الدين والخُلُق لكل من الطرفين، وهذا طبعًا هو الأساس العقلاني للزواج، ويأتي جنبًا إلى جنب مع الميول والمودة التي يخلقها الله بين الشريكين منذ النظرة الأولى، ولكن تغيرت أولويات الزواج وتبدلت أسسه، فلم تعد الفتيات ينظرن للخاطب النظرة العميقة التي تلزم لتأسيس الأسرة العربية المستقرة وتربية الابناء والتفاني لأجلهم، وإنما أصبح الزواج مشروعًا استثماريًا يجلب الراحة والرفاهية للفتاة بعيدًا عن جو المشاركة والتضحية الذي يقدمه كلا الشريكين في الزواج.

 وربما أحد أسباب كثرة المشكلات الزوجية، وتزايد الطلاق هو الاصطدام بالواقع العملي للزواج وخصوصًا مع "الزوج المغترب" الذي رسمت الفتاة آمالًا كبيرة معه وتخيلات سينمائية لعلاقتهما، فالحياة خارج الوطن ليست مثالية وسعيدة كما يعتقد الكثير، فالغربة لها وجعها ومرارتها وتعبها.

 والشاب المغترب يسعى جاهدًا للعمل والكَسب ليتمكن من إعالة الأسرة الجديدة التي يكونها، وهذا لا يعني أنه قادر على تلبية كافة أحلام زوجته السّاعية خلف الرفاهية، وأيضًا للزواج العربي المستقر مبادئه وتوجهاته التي يصعب المحافظة عليها بعيدًا عن توجيهات الأسرة الكبيرة والمجتمع المحافظ، خصوصًا إذا كان الزوجان الحديثان سيؤسسان عائلة في مجتمع غير عربي ذي أفكار تحررية.

فكم من حالات الزواج أدى بها الحال إلى الانفصال لغياب الوعي وسطحية التفكير بمنطق "العريس المغترب"، فالزواج ليس رحلة سفر ولا تسوق وإنما هو شراكة قلبين وروحين يقسمان على مواصلة الطريق للنهاية رغم تقلبات الظروف وقسوة الأقدار، وهو ثبات الموازين ورسوخ القيم والتأقلم مع تغيرات الحياة.

ولا أنكر أنني ربما فكرت في صغري بمنطق "العريس المغترب" لبعض الوقت ميلًا لأفكار الفئة الأولى من الفتيات؛ إلا أنني أعلم اليوم يقينًا أن أجمل الأقدار يسوقها الله تعالى للمرء في وطنه خاصّة رزقه الماديّ، وقد قال ابن القيّم الجوزية: "من علامات رضى الله عن العبد أن يجعل رزقه في وطنه". وهذه كرامةٌ عالية أن يرزق الله الزوجين في بلدهم مالًا وعيالًا، وينشئان أسرةً صغيرة في ظلّ الأسرة العربية الكبيرة.

ورد عن الإمام الحسن عليه السلام أنه قال لمن استشاره في تزويج ابنته: "زوجِّها من رجل تقي، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها". فليكن اختيارنا أيتها الجميلات على سنة الله ورسوله في الدين والخُلق، ثمّ تجري بنا أقدار الله من بلد إلى آخر كما يشاء، نحن نتزوج قلوبًا دافئة ورجالًا نستند إليها وترعى حقنا ولا تكسرنا، نتزوج لننهض بقلوبنا وبأمّتنا نهضةَ عزٍّ وثبات.