بنفسج

ذاكرة مؤجلة ولمسة أصبع: برواية أم أحمد مناصرة

الثلاثاء 10 يناير

أحمد مناصرة
أحمد مناصرة

مضتْ الأيام ثقيلةً وكبُرتْ العائلة حقًّا، والبيت الذي كان يضجُّ بضحكة الطفل أحمد، قد عمَّ بزغاريدَ منغوصة في زفافِ الشقيقة الأصغر "فاطمة". والعائلة التي كانت تتكون من ثلاثة شقاء، أصبحت اليوم خمسة، لكن ليس بالتَّمام. فبكرُ العائلة "أحمد" لم يكن حاضرًا في أيٍّ من هذه التفاصيل. فالزَّمن عنده قد توقَّف من اللحظة التي طُرِحَ فيها أرضًا غارقًا بدمائه، وحوله عشرات من المستوطنين يشتمونه بأقبح الشتائم، إلى أن غاب عن الوعي أو استُشهد -كما اعتقد جميع الشُّهود-.

قبل سبعِ سنواتٍ من الآن، خرج أحمد مناصرة ابن الثالثة عشر عامًا برفقة ابن عمه ورفيقه حسن، لنيلِ ساعةٍ من اللعب في شارع المدينة العتيقة، كانت أحداث انتفاضة القدسِ في أوجِها، والحواجز في ناصية كلِّ طريق. اقترب الطفلان من أحد الحواجز ليعودا إلى البيت، وما هي إلا لحظات حتَّى سُمِع زخات غير متوقفة من الرصاص، وصراخٌ بكلماتٍ عبرية تضجُّ بالمكان، ومن الخلف سيارةٌ تابعة لأحد المستوطنين تقترب بسرعةٍ من أحمد، ليطير في الهواء، ثم يسقط أرضًا وسط مجموعةٍ من الجنود الذي بدأوا بضربه بعصاهم دون توقف. لم يفهم أحمد أيًّا من هذه الأحداث، وكأنَّ الزمن اقتُطِع من اللحظة التي نادى فيها على حسن: "خلص يلا نرجع على الدار".

| أحمد مناصرة "إصابة قاتلة"

تلتقي "بنفسج" هذه المرة بصاحبة الحكايةِ كلِّها، لتروي لنا تفاصيلَ الحدث، لم نشأْ أن نفتحَ وجعًا لم يندمل من الأساس، لكنْ وجه الحقيقة بحاجةٍ لكثيرٍ من القوة لتُجمع سطوره وتُنشر. هذه أم أحمد مناصرة.
 
بدأتْ وهي تستذكر صورةَ أحمد الأولى، وصوت الجيران يصرخون "استشهد أحمد يا ميسون". والحقيقة أنَّ الرائي لدمِ أحمد، بعد دهسه وضربه على رأسه الذي تهشَّم، ومع منعِ اقتراب سيارة الإسعاف رغم كلِّ الاستغاثات، سيُدرِك أن الهدف الأساسي "تصفية أحمد كما فعلوا مع ابن عمه حسن".

تلتقي "بنفسج" هذه المرة بصاحبة الحكايةِ كلِّها، لتروي لنا تفاصيلَ الحدث، لم نشأْ أن نفتحَ وجعًا لم يندمل من الأساس، لكنْ وجه الحقيقة بحاجةٍ لكثيرٍ من القوة لتُجمع سطوره وتُنشر. هذه أم أحمد مناصرة السيدة ميسون مناصرة (38 عامًا). بدأتْ وهي تستذكر صورةَ أحمد الأولى، وصوت الجيران يصرخون "استشهد أحمد يا ميسون". والحقيقة أنَّ الرائي لدمِ أحمد، بعد دهسه وضربه على رأسه الذي تهشَّم، ومع منعِ اقتراب سيارة الإسعاف رغم كلِّ الاستغاثات، سيُدرِك أن الهدف الأساسي "تصفية أحمد كما فعلوا مع ابن عمه حسن".

طُوِّقَ المكان جيدًا، واجتمعت وسائل الإعلام، ليلتقطوا صورة الطفل الشهيد، وعندها سمح الجنود "وفقًا للأوامر" باقتراب سيارة الإسعاف لنقل أحمد إلى مشفى "عين كارم". وهناك مُنِعَ نشر أي خبر يتعلق بصحة أحمد سوى أنَه على قيد الحياة، وبعد ساعاتٍ تمكن محاميه من الدخول ليُفاجأ بوضعه الصحي. كان يعاني أحمد من كسرٍ في الجمجمة نتيجة دهسه بالسيارة، بالإضافة إلى تعرضه إلى نزيفٍ استمرَّ لساعاتٍ قبل أن يتم السيطرة عليه.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


بدأ التحقيق مع أحمد منذ اللحظات الأولى لدخوله المشفى، حيث قُيِّدت يداه في السرير، ومُنِعَ من مقابلة أي أحدٍ من أفراد عائلته. كان الجنود يضعون الطعام أمامه بجانب السرير دون أن يسمحوا له بتناول أي لقمةٍ منه إلى أن يدخل محاميه طارق البرغوث ويُطعمه "الكستر" الذي كان يشتريه بنفسه من "الكانتينا"، فالكسور التي تعرض لها أحمد في فكِّه منعته من القدرة على مضغِ الطعام.

كان الجنود يتناوبون على وضع سماعة الهاتف على أذن أحمد وهو يئن من الألم، ليستمع إلى كلام أحد المجندات وهي تلقي عليه سيلًا من الشتائم والكلمات البذيئة.  كان أحمد لا يستطيع المشي ورغم هذا، كانوا يرفضون إدخاله إلى "المرحاض" وهذا ما أدى إلى سقوطه وتعثره مراتٍ عديدة طالبًا المساعدة منهم، إلّا أنهم كانوا يجيبونه بالصراخ والتهديدات.

| أحمد مناصرة "مش متزكر"

أحمد مناصرة.jpeg
الأسير الفلسطيني أحمد مناصرة يتوسط الجنود الإسرائيلين في طريقهم للمحكمة

بعد عشرين يومًا من مكوث أحمد في المشفى، أمرتْ لجنة التحقيق بنقله لمُعتقل هشارون. كيف هذا؟! وجرحه لم يلتئم، وأنينه مازال يرافقه ليل نهار. دخل أحمد إلى المُعتقل مرتديًا لباسَ المشفى، مُقيَّد اليدين، حافيَ القدمين، لا يقوى على الحركة، ينظرُ من حوله يبحثُ في الوجوه عن أحدٍ يعرفه، لكن عبثًا كلُّ هذه المحاولات. فبهذه الحالة دخل أحمد إلى غرفة التحقيق، ليجلس أمام عددٍ من المحققين كانوا يدركون أنَّ القادمَ طفلٌ مريض، فكانت هذه الحالة بالنسبة لهم "سهلة في الاعتراف".

سألتُ عن الكيفية التي تم التحقيق بها مع أحمد، كانت دموع أمه أثناء الحديث تمنعني من مواصلة السؤال، إلَّا أنَّها كانت مُصرةً على مواصلة الحديث. تريد أن تُعبَّر عن الحمل الثقيل الذي تحمله في داخلها كلَّما تذكرت أحمد وما يعيشه من وجع. كان أحمد أثناء التحقيق ما يزال يعاني من كسر جمجمته، وصدمةٍ نفسية من هول ما رآه، خاصةً بعد فقدانه لرفيقه حسن، وهذا ما أدى إلى نسيانه الكثير من أحداث ذلك اليوم. كان المحقق يصرخ في وجهه، ويطلب منه الاعتراف أنه حاول طعن أحد الجنود، وأحمد يصرخُ ويبكي "مش متذكر" ويُقسمُ بالله أنَّه لم يحمل سكينًا ولم يحاول طعن أحدًا.

كان المحققون يستغلون الضعف الجسدي والنفسي لأحمد ليضغطوا عليه، بل ولجأوا إلى تصوير أحد جلسات التحقيق معه وهم يقولون: "كل عائلتك الآن تراك وأنت هنا تجلسُ أمامنا تكذب". استمرَّت التحقيقات مع أحمد في مُعتقل هشارون، حيث مُنِعَ من مُقابلة أهله أو الحديث معهم عبر الهاتف، كان في غرفة أحمد مجموعة من الأسرى الفلسطينيين الذي حاولوا مساعدة أحمد، لكنَّ حالته الصحية كانت متدهورة. وهذا ما دفعهم لإرسال رسائل عاجلة برفقة عائلاتهم وهم يقولون: "احكوا لأهل أحمد مناصرة الحقوا ابنكم مريض". لم تكن استغاثات أهل أحمد أو مؤسسات حقوق الإنسان والطفل، تمثِّل أيَّ رادع أمام لجان التحقيق الإسرائيلية.


اقرأ أيضًا: مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش


انتقل أحمد بعد شهرين من التحقيق إلى معتقل "مجدو" وهناك، سُمِح لعائلته بزيارته والحديث معه من خلال الهاتف مع وجود جدارٍ زجاجي عازل بين أحمد وعائلته. دخل أحمد إلى الغرفة وبمجرد رؤية أهله لم يتمالك نفسه من البكاء. لم يتحدَّث أحمد بشيء، كان البكاء سيدَ الموقف، كان يكتفي بجملة: "اشتقتلكم". كانت أم أحمد مناصرة تمسك الهاتف وتلوِّح بيديها له قائلةً: "أنت قوي يا أحمد، هكذا عرفتُك، تماسك يا ولدي، فالكلُّ يدعو لك".

كانت تدركُ أم أحمد أن هذه الكلمات ستُسكِنُ طفلها بعضَ الشيء، كمُخدِّرٍ سيذهب تأثيره بمجرد انتهاء الزيارة، وصراخ الجندي على أحمد ليترك سمَّاعة الهاتف. فيغادر الجميع إلَّا قلب أمه، يبقى ساجدًا بكرةً وعشيًّا يستغيث الله لإنقاذ حياة أحمد، وإعطائه القوة والصبر.

| طفل بعمر الـ 14 وحكم 12 عامًا

مضى من هذا الحكم سبع سنواتٍ عجاف، عاش فيها أحمد الوجع بألوانه، خاصةً في العامين المنصرمين، كان يتعرض لتعذيبٍ من نوعٍ آخر. في هذا تقول أم أحمد مناصرة: لقد تدهور الوضع النفسي لأحمد، فجلسات التحقيق والضغط الذي عاشه أدى إلى وجود نوبات عصبية متتالية.
 
ورغم هذا أصدرت إدارة السجن قرار العزل الانفرادي لأحمد، كخطوة علاجية." وكيف يُعالجُ الدَّاء بالداء؟! كأنْ يعيشَ وحده لا يقابل أحدًا، لا يتحدثُ إلا مع نفسه، لا يعرف الأوقات ولا الأيام، لا يدرك الليل من النَّهار.

بقيَ أحمد موقوفًا لمدة عامٍ كامل، إلى أن حُددت محاكمته في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2016، حيث كان عمره وقتئذٍ 14 عامًا ونصف، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة 12 عامًا وغرامةٍ مالية تُقدَّر بـ 80 ألف شيكلًا بتهمة "محاولة طعن". كان الحكم كبيرًا جدًا، ومنافيًا لكافة مواثيق حماية حقوق الطفل، وهذا ما أدى إلى طلب الاستئناف من قبل المحامي ليُخفَّض الحكم إلى تسع سنواتٍ ونصف.

مضى من هذا الحكم سبع سنواتٍ عجاف، عاش فيها أحمد الوجع بألوانه، خاصةً في العامين المنصرمين، كان يتعرض لتعذيبٍ من نوعٍ آخر. في هذا تقول أم أحمد مناصرة: لقد تدهور الوضع النفسي لأحمد، فجلسات التحقيق والضغط الذي عاشه أدى إلى وجود نوبات عصبية متتالية، لا يتمالك فيها أحمد نفسها من البكاء والصراخ. ورغم هذا أصدرت إدارة السجن قرار العزل الانفرادي لأحمد، كخطوة علاجية." وكيف يُعالجُ الدَّاء بالداء؟! كأنْ يعيشَ وحده لا يقابل أحدًا، لا يتحدثُ إلا مع نفسه، لا يعرف الأوقات ولا الأيام، لا يدرك الليل من النَّهار.

وعندما ساءتْ حالةُ أحمد ودخل مرحلة إيذاء نفسه من شدة التعب النفسي، استجابت إدارة السجن لطلب عائلته بإدخال طبيبٍ نفسي، لتكون المفاجأة بأنه طبيبٌ نفسي إسرائيلي لا يتحدث العربية! لم تتحسنْ الحالة النفسية لأحمد، رغم مزاعم إدارة السجن أنَّها وفَرت مجموعة من الأدوية "الفعَّالة" لصحة أحمد، لكن كانت هذه الأدوية تعطي مفعولًا عكسيًا، لتزداد نوباته العصبية وتصل به الحال إلى محاولاتٍ للانتحار".


اقرأ أيضًا: خلاط في السجن: عن أمنيات شاب عشريني


"أنا أفقد ابني" قالتها أم أحمد مناصرة وهي تبكي وتناشد مؤسسات حماية الإنسان لإنقاذ حياة أحمد، ففي كلِّ مرةٍ كانت تزور ابنها تراه بحالٍ أسوأ من السابق. كان من الواضح أن إدارة السجن لا تلقِ بالًا لحالة أحمد، فعندما قدَّم محاميه طلبًا لإعادة أحمد إلى المُعتقل وإنهاء العزل الانفرادي، وجاء موعد المحكمة لبحث القرار، زعمت إدارة السجن أن حالة أحمد النفسية استدعت نقله إلى المشفى. وعلى مدارِ عامٍ كامل تؤجل مُحاكمة أحمد تحت هذه المزاعم، وبسبب أدوية "مجهولة" يعطونها لأحمد.

| أم أحمد مناصرة "الصبر الصعب"

مناصرة2.jpg
عائلة الأسير أحمد مناصرة مع ممثل الاتحاد الأوروبي لدى فلسطين سفن كون فون ورغسدورف

سبعُ سنواتٍ مضتْ ولم يتمكن أحمد من احتضان أمِّه، ولم يكن أيضًا لميسون لمس وجنتي ابنها الذي صار شابًا. أصبح أحمد الآن بعمر العشرين، شابًا بعمر الزهور، كان من المفترض أن يكبُر في حضن أمه، أن تتباهى به حبيبًا يكبُر ويزداد طولًا ووسامة. كانت عائلة أحمد تشحذ همة ابنها بكلِّ الأشكال، يطبطبون على قلبه أنَّها سنواتٍ بسيطة وينتهي هذا الكابوس ويخرج للحياة من جديد. كان دعمهم من اللحظة الأولى حتَّى عندما قرر أحمد الالتحاق بالثانوية العامة؛ فوفَّروا له الكتب اللازمة، وعندما لم يحالفه الحظ في المرة الأولى، شدوا على عزيمته أن الطريق مازال أمامه، ليلتحقَ مرةً ثانية ويحصل على معدل 76%.

"كان الحلم أمامنا جميعًا، أن أحمد سيتعافى، لكن في السنوات الأخيرة، وبعد كلِّ زيارةٍ أرى فيها ابني يتألم، أدرك أنه ليس بخيرٍ أبدًا". تقول أم أحمد على أمل بشفاءِ أحمد. وأمَّا عن المرة الأخيرة في زيارتها لابنها أحمد، فمبجرد أنْ سألتُها هذا السؤال، تغيَّر صوتُها لأسمعَ صوتَ سيدةٍ مُبتهجة وكأنَّها آتت سؤلها: "قبل أسبوعٍ كان هناك جلسة مُحاكمة لأحمد، وما أن انتهت، ركضتُ نحو القاضي رغم كل الجنود الواقفين، وطلبتُ منه لمس أحمد، فقط لمس أصبعٍ منه، أصبعٍ واحد!".

كانت أمنية ميسون أنْ تُدخِلَ أصبعها من فتحة الزجاج لتلمسَ أصبع قرة عينها وبكرها أحمد، لم يصدق أحمد نفسه، انحنى على طرف أصبع أمِّه يُقبِّلُه ويشم رائحته. يتشبَّثُ به كأنَّه يعتذر عن كلِّ يومٍ مضى دون قبلةٍ على هذه اليد. ثوانٍ معدودة كعمر السبع سنوات التي حُرِمتْ منها أم أحمد من احتضان ابنها، ويا ليتَ الزمان توقَّف حينها. خرجت أم أحمد مناصرة حمامةً تطير، وتخبر كلَّ النَّسوة "لقد لمستُ أصبع أحمد" . ومن خلفها سؤالُنا: كيف يمكن لأصبعٍ أن يتحول إلى حلم، أن تصبح كلمة "مبروك يا أم أحمد" لمجرد أن أصبع أمٍ لمس أصبع ابنها؟!