بنفسج

خلاط في السجن: عن أمنيات شاب عشريني

الأحد 15 نوفمبر

فجأة، وبدون مقدمات، انقلبت حياة الطفل الذي كبر على عجالة، والذي ما زال يذكر والده كيف كان يعلمه نطق الحروف بالشكل الصحيح. ويحكي له حكايات طفولته الهادئة، الشاب عزمي نفاع، رأته عائلته ورصاصات الغدر تصيبه، لم تكن في مقتل، ولكن كل رصاصة خرجت أصابت العائلة الصغيرة في القلب مباشرة. إصابة أدت إلى تشوه ابن العائلة الوسيم الذي كان يمارس حياته كطالب جامعي في تخصص القانون، في جامعة النجاح الوطنية، فصل دراسي واحد، وكانت والدته ستراه بقبعة التخرج، وتغني له "ده مفيش فرحان زي الفرحان بنجاحه"، لكن الاحتلال "الإسرائيلي" كان له كلمة أخرى؛ حرمهم جميعًا من الاحتفال بعزمي متخرجًا من جامعته، وبدلًا من أن يروه بزي التخرج المنتظر، شاهدوه مصابًا في وجهه وأنحاء متفرقة من جسده؛ فاقدًا للأسنان العلوية وشفته العلوية، ولم يعد يستطيع مضغ الطعام.

| إصابة شوهته ومطالبات بـ "خلاط"

1 (4).png
 

هنا حكاية الأسير الفلسطيني عزمي نفاع من مدينة جنين الذي اعتُقل قبل حوالي خمس سنوات، بزعم محاولة قتل جنود على حاجز زعترة العسكري، جنوب نابلس، فأصابته الرصاصات الغادرة،  وحكمت عليه محكمة سالم العسكرية بالسجن لمدة عشرين عامًا، يقول والده سهل نفاع، " كان الخبر قاسيًا علينا، ابني البالغ من العمر 21 عامًا سيقضي شبابه وربيع عمره في السجن، انصدمنا جميعًا، ولكن عزمي لم أره يائسًا قانطًا، بالرغم من كل ما جرى وإصابته التي أدت إلى تشوه في شفته، وسببت له مشكلة في الأكل،  ولكني لم أر في عينيه منذ يوم اعتقاله وحتى اللحظة نظرة يأس؛ معنوياته دائما عالية، يمنحني أنا ووالدته الأمل في كل زيارة لنا".

منذ إصابته واعتقاله، وفي كل زيارة، أخجل من سؤاله كيف تأكل طعامك وتمضغه؟ لم أحاول ولو مرة سؤاله، وعرفت مؤخرًا من محاميه أنه كان يستخدم خلاطًا كهربائيًا في معتقل جلبوع لخلط الطعام حتى يستطيع الأكل، ومنذ نقله لمعتقل شطه الذي لا يوجد به خلاط زادت المعاناة، وأنا ما زلت أطالب بتوفير خلاط وخضار خاصة ومراعاة حالته الصحية".

لم يستطع عزمي أن يطلب البطيخ كما في طفولته، فهو الطفل المغرم في البطيخ، كان يصر على والده ويقول بلكنة الأطفال، "بدي طبيخ" فيرد والده " طبيخ شو يا عزمي"، فيأخذه طفله نحو الشارع ليصطحبه لبائع البطيخ على حافة الطريق ويقول، "من هادا بدي"، فيضحك والده ويقول، اسمه بطيخ يلا احكي وراي"،  لن يقبل يد والده ووالدته كل صباح، لن يسمع من والده كل ليلة، الله يرضى عليك يابا، ومن والدته " أكلت يما يا حبيبي" لتطبخ له ما لذ وطاب.

  يضيف والد عزمي "منذ إصابته واعتقاله، وفي كل زيارة، أخجل من سؤاله كيف تأكل طعامك وتمضغه؟ لم أحاول ولو مرة سؤاله، وعرفت مؤخرًا من محاميه أنه كان يستخدم خلاطًا كهربائيًا في معتقل جلبوع لخلط الطعام حتى يستطيع الأكل، ومنذ نقله لمعتقل شطه الذي لا يوجد به خلاط، زادت المعاناة، وأنا ما زلت أطالب بتوفير خلاط وخضار خاصة ومراعاة حالته الصحية".

| شجرة الحرية

3 (2).png
 

في طفولته، كان طفلًا هادئًا وديعًا، حس المسؤولية لديه منذ صغره، حنونًا على والدته وأخواته، خمس سنوات تحولت حياة العائلة الصغيرة إلى انتظار موعد الزيارة، يقول والده "في كل زيارة لا يمنحنا المجال لأن نسأله عن حاله، يسألنا عنا بالخارج عن الجيران عن المباني التي تغيرت في غيابه، عن من بنى بيته من جديد، ومن هدم الاحتلال بيته، ومن أنجب طفلًا أو تزوج في غيابه. عن أدق التفاصيل وأخبار كل من يعرفهم، وإن لم نقل له معلومة سقطت من سهوًا، يعقد حاجبيه ويقول "أي ليش ما حكتولي"، يريد أن يشعر بأنه بيننا، لم يفرقنا سجن ولا احتلال".

ما زال عزمي ينتظر بأن تُجرى عمليات جراحية لزراعة العظم في فكه العلوي، وزراعة أسنان، وإعادة بناء الشفة العلوية، والده يحاول بشتى الطرق أن يرفع قضية عزمي للجهات الحقوقية ويضغط هنا وهناك. يمر الوقت سريعًا في زيارة عزمي، ولكن حكايات العائلة لم تنتهِ ولن تنتهي، والده يذكره بالطبيخ أو بالبطيخ الذي كان يطلبه "ذاكر يا عزمي"! فيضحك هو ويضحك والده متألمًا، وكله أمل بأن تنتهي الأيام العجاف هذه وتزين بلحظة التحرر.

أفلا يقولون إن المرء له من اسمه نصيب، هكذا عزمي، عزم وأصر أن يكمل الفصل الباقي من دراسته في القانون في السجن، ويدرس الآن من جديد التخصص الثاني في الخدمة الاجتماعية، ويطمح أن يكمل الماجستير. عزمي محب للتين؛ طلب من والده أن يزرع له شجرة تين، فزرعها الأب لأجل ابنه، وأسماها شجرة الحرية، كبرت الشجرة ونضج التين حتى التقط الأب أول حبة، آملًا أن يخرج عزمي من زنزانته ليسلمه أمانته ليرعاها هو ويلتقط حباتها كل عام.

2 (3).png
 

ومن المواقف التي يذكرها الأب من زيارته لابنه، يقول، " في أخر عشر ثواني من دقائق الزيارة الخمس وأربعين، قلت له: "يا ريت كل أب يكون عنده ولد زي عزمي، فأجاب: "هي أنت يابا عندك عزمي"، وانقطع الاتصال". عزمي يقوم أحيانًا بتقمص دور الوالد، ويوصي والده ووالدته عدة توصيات للاهتمام بصحتهم، يضيف والده لبنفسج، " في مرة لقيته باعتلي خبر دير بالك على حالك يابا وما تطلع تلعب رياضة بالليل بالشوب هاد، وكان هو وقتها بمعتقل جلبوع اللي يعتبر من أكثر السجون حرارة، هو بالشوب وبالسجن وخايف علينا برا".

يفتقد والد عزمي طقوس يوم الخميس مع ابنه قبل الاعتقال، ومشاويرهم الطويلة بسيارتهم الخاصة، وسهراتهم في ليالي الشتاء الطويلة يقول، "كان كل يوم خميس ياخد السيارة يغسلها وينظفها، ويعطيني التعليمات بأنه ممنوع أفتح الشباك لأنه بكون مبلول لسا، وطوفان آخر من الوصايا".

منذ بدء جائحة "كوورنا " انقطع أهالي الأسرى عن الزيارات، فكانت حياتهم صعبة بدون الزيارة التي تهون عليهم الحياة، بعد خمسة أشهر من الانقطاع، حصلت والدة عزمي على تصريح الزيارة لترى ابنها المدلل، يقول سهل نفاع، "في بداية جائحة كورونا تم رفع مطالبات إلى جهات دولية مثل الأمم المتحدة لإطلاق سراح الأسرى، ولغاية اللحظة، ما زلنا ننتظر أن يخبرنا أحد الرد على مطالباتنا".

يدعو سهل نفاع كل المنظمات الدولية والحقوقية، وكل الجهات المعنية أن تجد حلًا لعزمي وللإهمال المتعمد من إدارة السجون لحالته الصحية، ويطالب بتوفير أدنى احتياجاته في السجن الذي يقبع فيه.