بنفسج

عطاء أم تضحية...فرض أم هبة؟

الإثنين 30 يناير

يقول الله في كتابه الكريم )عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذ(، )فَأَمّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى(، )وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى(. منذ زمن بعيد، كان الإيثار والعطاء والتضحية، من شيم كرم الجماعة وحسن الخلق بين الناس، وقد سطرت أشعار حول عطاء الناس لبعضهم بعضًا، خاصة عطاء الأم لأطفالها منذ ولادتهم وحتى مماتها، لم تقف ولم تمل، تعطي وتضحي من عمرها في سبيل رؤية البسمة على وجه عائلتها، وقد وصف الكريم بالكرم لكثرة عطاءه للناس، ولكن، ما هو العطاء؟ وما هي التضحية؟ وهل نفرق بينهما؟

إن العطاء يكون بلا مقابل، ننتظره من الطرف الآخر، نعطي بهدف الأجر ونعقد النيّة لها، ويعود لنا بالسعادة والاطمئنان والرضى عن النفس، كما يقول رسول الله _صلَ الله عليه وسلم_: (اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى وفي كل خير)، فمن يعطي يعيش حياة مستقرة أكثر ممن يأخذ، والعطاء ليس مقصورًا على المال أو على الأغنياء، فعطاء المشاعر والحب والكلمات أيضًا أجر وصدقة، كما قال رسول الله (الكلمة الطيبة صدقة).

والتضحية نوعان، تضحية إيجابية، وتضحية سلبية: التضحية الإيجابية فهي أن تعلم بأنك تضحي، وتفهم أبعاد هذه التضحية على نفسك وحياتك، وأن تكون مدركًا لما يحدث من حولك، تضحي برضى منك وحب، ولا ترجع هذه التضحية على النفس بشيء من الاضطراب أو التعب.

أما التضحية، فهي التخلي عن أمور تخصك، والتنازل عن بعض حقوقك في حياتك، وحرمانٌ لنفسك مقابل ضمان سعادة الآخرين، كتخلي الأخ عن دراسته الجامعية مقابل أن تدرس أخته، والأمثال كثيرة.

والتضحية نوعان، تضحية إيجابية، وتضحية سلبية: التضحية الإيجابية فهي أن تعلم بأنك تضحي، وتفهم أبعاد هذه التضحية على نفسك وحياتك، وأن تكون مدركًا لما يحدث من حولك، تضحي برضى منك وحب، ولا ترجع هذه التضحية على النفس بشيء من الاضطراب أو التعب.

أما التضحية السلبية أن تُستنزف وأنت لا تشعر، وتتخلى دون إدراك منك، ومع تكرار سنوات التضحية تعود على نفسك بمشاعر سلبية وعدم تقدير للذات، وغالبًا تنشأ هذه التضحية من التربية في الصغر، إذ يتربى الطفل أن يترك ألعابه لأخيه الأصغر، لأنه الأكبر ويجب أن يعطي، أو تتربى الأخت أن تلبي جميع طلبات أخيها لأنه الرجل الآمر وهي الأنثى، أي أن التضحية السلبية أمر مكتسب من البيئة الحاضنة للطفل، هل يتربى على الاستقلال أم التبعية المحكومة.


اقرأ أيضًا: وقفي شوي... على مهلك


اعتدنا منذ الصغر على رؤية أمهاتنا يفضلننا على أنفسهنّ، حتى بتنا نرى أن هذا دورهن، وفرض عليهن وليس فضلًا منهن. منّا القليل من قدر تلك التضحيات الكبيرة، فمن الطبيعي أن تشتري لنا أمهاتنا ملابس العيد والمدرسة وملابس جديدة لأننا مللنا من نفس الملابس لا لشيء آخر، ومن الغريب أن تشتري لها أكثر من قطعة ملابس في الوقت نفسه، وبات من المستهجن أن يمر يوم دون طبخ الطعام بحجة أن الأم متعبة، كيف لها أن تتعب ونحن نريد أن نأكل؟ وكيف لها أن تخرج في رحلة دون أن تصطحبنا معها؟ وكيف لها أن تخبئ مالها الخاص دون أن تنفق علينا باستمرار؟ كيف وكيف وكيف؟ هكذا صوّرت لنا الأم منذ أن أوجدنا على هذه الحياة، مجبورة على العطاء المستمر دون توقف.

جميعنا ندرك أن الأم هي الطرف الأكثر تضحية كونها المسؤولة الأولى عن التربية والعناية بأطفالها، كون الأب مشغولًا غالبًا في عمله خارج البيت، فكان لزامًا على الأم أن تضحي بالعديد من الرفاهيات والأساسيات أيضًا في سبيل إيجاد بيت مرتب وأطفال سعداء، والتربية من أنبل المهن في العالم، فالكثير من البيوت قد عمرت بالأم، وكوننا أمهات، فهذا يعني أن ما نقدمه مغلف بالحب والدعوات، وجل تضحياتنا لأبنائنا هي من قلب يسعُد بسعادتهم.

إن سعادتنا الحقيقية كأمهات أن نرى أطفالنا يتمتعون بسعادة دون أن ينقصهم من الحياة شيء، وأن ننقص على أنفسنا فيكملون، ونجوع فيشبعون، ففطرتنا مجبولة على حبهم والعطاء لهم والاهتمام باحتياجهم، ولكن بشرط  ألا يكون ذلك على حساب أنفسنا وشخصياتنا، وألا نلغي حياتنا مقابل إنقاذ حياتهم، لستِ مسؤولة عن ذلك!

 ولكن، يجب أن تعلمي عزيزتي الأم أن كل شيء في هذه الحياة يجب أن يكون بتوازن مطلق، لا إفراط ولا تفريط، ولا رخاء ولا شدة، وأن تعلمي أن لنفسك حق، ولبيتك حق، ولزوجك حق، وألا تكون تضحيتك في حياتك على حساب ظلمك أو نسيانك لنفسك، واعلمي أن ما تقدميه اليوم باستمرار يصبح فرضًا وعِبئًا عليك في ما بعد، وكلمة "لا" في بعض الأحيان نجاة للنفس.

عزيزتي الأم، إن سعادتنا الحقيقية كأمهات أن نرى أطفالنا يتمتعون بسعادة دون أن ينقصهم من الحياة شيء، وأن ننقص على أنفسنا فيكملون، ونجوع فيشبعون، ففطرتنا مجبولة على حبهم والعطاء لهم والاهتمام باحتياجهم، ولكن بشرط ! ألا يكون ذلك على حساب أنفسنا وشخصياتنا، وألا نلغي حياتنا مقابل إنقاذ حياتهم، لستِ مسؤولة عن ذلك!


اقرأ أيضًا: الأمومة: مدرسة النَفَس الطويــــــل


ما أكثر حاجة الأسر اليوم إلى معنى السعادة الحقيقية بترابط متين وسكينة وميثاق غليظ، ولا تحُل السعادة دون وجود التوازن في كل أمور الحياة، فبناء الأسرة يحتاج إلى لبنات يضعها كل أفراد البيت، كلٌ بدوره ومكانته وقدراته، ووجب أن يكون أساس هذا البناء أمًا وأبًا سعداء وأسوياء نفسيًا قد علم كل منهم حقوقه وواجباته دون أن يركن بدوره للطرف الآخر، فنهاية الكلام أن الوعي والإدراك لتصرفاتنا ومشاعرنا وعطائنا وتضحياتنا هو أساس الاستقرار النفسي الذي ينتج عنه استقرار البيت كله، وحاجة الأطفال إلى أم وأب مستقرين ومقبلين على الحياة أكثر من حاجتهم إلى غسيل ملابسهم أو شراء العاب جديدة.وأسال الله أن يجعل تعب أمهاتنا وآبائنا في ميزان حسناتهم، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء، ويرزقنا برّ أبنائنا وصلاحهم في الدنيا والآخرة.