بنفسج

كيف يجعلنا اللطف أكثر سعادة؟

الثلاثاء 17 يناير

خرجتُ في يومٍ ربيعيّ نديّ مُنتظَر، مكسو بمساحات خضراء تُسبح في ملكوت الله. كانت الشمس تجعل كل شيء يبدو مُشرقًا مبهجًا، وفرصة ثرية تدعو للتأمل في فضاءات الكون الفسيح وآيات الله الرحبة الممتدة على امتدادِ الأفق واستجابة نورانية للأمر الإلهي: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ".

صافحت كتابي بعد استنشاق جرعة الصباح الوفيرة وأنفاسه الباردة المتكومة على وجهي لتُوقِظ مسامات البهجة. كتاب" حب الحياة": أيقونة مشحونة بتجربة سمو الحياة وبهجة وعيها وسكينتها، بدأت ألعب لعبةً مع الكتاب، أفتحه، وما وقعت عيني عليه واختارته من الصفحات رسالة كونية تشحن طاقتي، وتمدني بالحياة وزهرها الندي، وتُورق في روحي بهجة النعيم.

 "لا ترفع الكلمات اللطيفة معنوياتنا في اللحظة التي تُقال فقط، وإنما يمكن أن تبقى معنا على مدار السنين". "ليس المهم فقط أن تعبر عن أفكارك ومشاعرك، ولكن المهم أيضًا أن تعبر عنها بالطريقة الصحيحة". "أنت دومًا مسؤول عن الطريقة التي تتصرف بها بغض النظر عما تشعر به". "كُلٌ لديه معركته الصامتة وأفضل هدية نقدمها لبعضنا البعض هي اللطف".

تزاحمت المواقف المُضمِّدة لقلبي المكسوة بوافر اللطف والحنوّ والعطف واللين التي تؤيد نور الوعي، وسمو الشعور واتساع الخير، سابقتها شارة نبوية من كنزِ السنة المحمدية، معراج الوصول إلى الجنة الخالدة، حديث رسول صلى الله عليه وسلم: "من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله"، رواه مسلم. وحديث آخر: "حُرِّم على النار: كل هيّن ليّن سهل، قريب من الناس". رواه الترمذي

أما قصتي الندية، كُنتُ مرة في إجراء معاملات، بانتظار توقيع الأوراق، كان وجهي مُبللًا بالتعب مكسوًا بالدموع راجية تمام الأمور، توقف أمام شرطيٌّ بعمر والدي، سماته مُحملّة بالعطف والطيبة والأبوة، دخلت أمامه لأستلم ورقتي. سألني عن نوع المعاملة، أجبته بسرعة البرق، متأملة أن أسمع خبرًا لطيفًا يؤنس طول الطريق الذي مررت به وصولًا إلى هنا.


اقرأ أيضًا: سر قلبي الجديد


بكل مشاعر الأبوة التي أحن لتفاصيلها مع أبي الرجل الأحن الأكرم الأوفى، طمأن الشرطي الطيب انتظاري: "شو بعرفك يا بنتي يمكن هلا جهزت ورقتك لتستلميها ولا يهمك اطمني وارتاحي هون".

بكيت أكثر حينها ورسمت ملامحه جيدًا في صورة ذاكرتي، بكيت أكثر لأن الله أرسل لي من نفحة اسمه اللطيف روحًا على هيئة هذا الشرطي الطيب؛ ليسكب الطمأنينة في روحي ويُحيطني بالأُنسِ والمحبة والرحمة. ويُنير في بصيرتي قول عابد: "ما أوقد الناس في قلبي نار اليأس إلا رأيتُ الله باللطفِ يُطفئها، لو طالني الخوفُ، إن اليأسَ ما طالَ".

غادرت المكان ولم أستلم ورقتي غير أن حُنوَّ هذا الطيب، هدهَدني وأرسل الطمأنينة لقلبي، وأينع غرس اللطف في روحي مسرات ناطقة بالحمد والشكر، مليئة بالدعوات أن يشمله الله دومًا بسر اسمه اللطيف، ويسري لُطفه في كامل حياته بكل يسرٍ وسهولةٍ وأفضلِ احتمال، أن يُسخّر الله له الطيبين أمثاله في قضاء حوائجه وتيسير أمره وتفريج كربه، وأن يحفظ له زوجه وولده، وأن يمدَّ في عمره في حُسن عمل وصحة وعافية.

بقيت أسردُ القصة لكل من أراه نشرًا في صورة الخير المبشرة المرجوة. عبارات بسيطة خرجت من قلبه بصدقٍ وملامح حانية، وأبوة صادقة صنعت يومي وأيامًا كثيرة بعدها بعنوان "باللطف تفتح جميع الأبواب". وطوعًا لحكمة كارولين وبيتر: "احتف بكل ما هو جميل ومبارك في حياتك مُدركًا أن العرفان بالجميل علاج فعّال للكثير من الأمور. واعلم أن تقديرك لكل العطايا التي أنعم الله عليك بها يزيد من الحيوية التي تمنحها لك قوة الحياة".

غادرت وعدت بعد أسابيع مُحمّلة بأُنس المكان الذي شهِدَ دمعي، ولطف الله في رفق الشرطي معي. أمامي طابور انتظار مُكدّس بحكايا وتفاصيل لا أعلمها غير أن ملامح أصحابها تشرحها عن كثب. جاء دوري واستفتحت دخولي بصديق الرحلة الشرطي الطيب، "وصلت الورقة؟" ما زال يتذكرني! ذهبت إليه ودموعي ترسم فرحتي "أجت الحمد لله" رد عليَّ بفرحة المتلهف لخبر سار: "مش قلتلك يا بنتي كلشي لخير ورح تيجي، شو بينك وبين ربك لتوصل هلا وقت انتهاء الدوام وتفرحي قبل لتروحي". "مع السلامة يا عمي". "مع السلامة يا بنتي".


اقرأ أيضًا: صنائع المعروف: صوتك الذي لن يندثر


أنت الذي ما بينك وبين الله يا عمي لتأخذ وافر الدعوات الهاطلة، وعظيم الرجاء لرب المكرمات أن يصب عليك الخير والسرور صبًّا صبًا، ويسكب طمأنينته وفرحته في قلبك؟! نمت القصة في روحي قوس قزح لأن القلب يجد صباحه في الندى العالق بالأمور البسيطة؛ فينتعش ويستعيد قوته.

في لحظة كونك لطيفًا تشع في كل خلاياك البهجة والدفء والنقاء والصفاء، تختفي ببساطة كل الأفكار حول الفوائد العائدة، من شعور سامٍ رقراق يُضفي على من حولك حُسنًا ليكون على ما يُرام.

إنه شكلٌ من أشكالِ حب البقاء، روح العطاء وبناء العلاقات وتقويتها، وضمان حمايتها عبر أصحاب القلوب العامرة بالخير والنفع، الغنية بالسعادة الداخلية، الفريدة بحُسن الخلق، الثمينة بوفرة المحبة والسلام واللين والإحسان والرحمة. ولأن اللطف دواء فعال في الصحة النفسية نحو "شعورٌ أفضل، سعادةٌ أكبر، حياةٌ أطول"؛ إذا جعلنا منه ممارسة واعية نقية؛ ربِحنا سلامًا داخليًا، طمأنينة عذبة، وفرة يومية، قوة في تحسين حياتنا وعالمنا، فرحٌ عميق والمزيد من الحب اللا مشروط.

من أجل ذلك كله، هيا لنتعاون على البر والتقوى ونمارس خمس تصرفات لطيفة يومية: كتابة رسالة شكر وامتنان لمن تحب. دفع أجرة طالب مدرسة. شراء هدية يريدها شخص تعرفه. زيارة أحد الأقارب من كبار السن. السماح لأحدهم في الدخول أمامك في طابور المتجر. هذه السعادات الخمس مكافأة لروحك، تحفر في قلبك لذة العطاء ومتعة الوصول لحب الله ورسوله في الحديث النبوي:

" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ؟ قال: "أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تَدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي مَسْجِدٍ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رِضا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ".


اقرأ أيضًا: لماذا نكتب؟ قلم يفصح عن صاحبه


مع استحضار هذه النية المُقدسة وتكرار التصرفات اللطيفة واستشعار حلاوتها، ستجد نفسك كل يوم معبأ بحب كلام الله " أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ". ويا لحظ من أحبه الله ورسوله، واستثمر دنياه في فهم رسالة الحياة ومكنون نعيمها وكنزها الثمين نحو المزيد من الحب، الفرح، الاستمتاع، الدهشة، اليُسر، التسخير. وتذكر، أينما ذهبت، اذهب من أعماق قلبك بلطف وحنوّ.