بنفسج

سأكتب لأقول: أنني كنتُ هنا يومًا... ونجوت!

الإثنين 21 مارس

صار عمري الآن ربع قرن تقريبًا، ولا زلت الفتاةَ التي ترى نفسها طفلةً لم يعاملها الكون كذلك، ولا زلت أسأل: ماذا يفيد لو كتَبت؟ ما النفع الذي سأحدثه في هذا العالم بوجود من سبروا أغوار كل شيء؟ واليوم عرفت إجابتي التي أريدُ أن أشاركها مع كل من يقرأ. سألني ذاتَ يوم كاتبٌ لا أعرفه جيدًا، وكان ذلك قبل أربع سنين من اليوم "لمَ لا تكتبين؟". فأجبته: "لأنني لا زلت صغيرة، وأؤمن أنني كي أكتب لا بد أن أعرف شيئًا آخر، شيءٌ يضيف لهذا العالم ما لم يكن يعرف قبلي".

واليوم أغير إجابتي وفِعلي، وأقول: بل سأكتب. سأكتبُ لأن جميع الذين فعلوا ربما ظنوا أنهم لا يعرفون شيئًا، ولكن الإنسان-الاجتماعيّ بطبعه- يودّ لو يشاركه أحدٌ بما يشعر من دون أن يستطيع أن يعبّر عنه، يود لو يعبر عنهُ إنسانٌ آخر، سأكتب لا لأغيّر مجرى العالم، بل لأقول لهم أنني كنتُ هنا، شعرتُ مثلكم، وعشتُ مثلكم، وأعبر عنهم، وأشارك في هذه التجربة. فماذا نفعل كي نكتب؟

ماذا يحتاج هذا العالم من الكتابة؟ يحتاج الناس أُنسًا، ورفقةً، ومعرفةً، وتسليةً، واكتشافات، وطاقة خير يستعين بها الناس على سوء أيامهم. اكتُب لتقول لمن سيأتون بعدنا أننا كنا هنا، وأننا مررنا بحكم التجربة الإنسانية بكثيرٍ مما تمرّون به، وأننا نجونا، وأنكم ستنجون.

أقولُ دائمًا، أن الكاتب الجيد ينبغي بالضرورة أن يكون قارئًا جيّدًا، وأؤكد على قولي هذا. عزيزي القارئ، إن كل شيء تقرؤه يغيّر بالضرورة شيئًا ما فيك، سواء بتأثرك بلغة الكاتب، أو بمعرفتك ما هو جيدٌ وما هو رديء، أو يضيفُ شيئًا على معرفتك، أو بكل بساطة: يصنعُ منكَ إنسانًا آخر. حينَ تقرأ، فأنت تتصل مع أرواحٍ لا تعرفها "فيزيائيًا"، وترتبطُ بفكرٍ لم تقابل صاحبه وجهًا لوجه، وتضيفُ إلى مبادئك لينًا ومرونةً بتلقي ما هو غريبٌ عنها.

القراءة، حقًا، غذاء الروح. فغذِّ قلمك بحبر المعرفة قبل أن تكتب. نضيفُ إلى ذلك، تجربتك الإنسانية. فلا ينبغي أن تكونَ محصورًا بين الكتب والجدران لتكتب، بل ينبغي أن يكون لك في الشارع أثر، وفي البيت أثر، ومع الناس أثر، وفي العزلة أثر؛ فالكاتبُ الذي يكتب ما يكتب من تجربته المنفردة وعزلته المطلقة لا يبدعُ شيئًا. العالمُ في الخارج يحتاج لمن يكتب من وسطه.


اقرأ أيضًا: حين رحل أسامة.. أنطقهم الله ليجبروا كسرنا


ثمَّ، حدّد هدفك مما تكتب، فلا تكتب شيئًا لا هدف منه، ولو عجز الآخرون عن فهم مبتغاك، المهم أن يكون هناك وسيلة لتفرغ ما بجعبتك من حديث. واسأل نفسك عزيزي القارئ، ماذا يحتاج هذا العالم من الكتابة؟ يحتاج الناس أُنسًا، ورفقةً، ومعرفةً، وتسليةً، واكتشافات، وطاقة خير يستعين بها الناس على سوء أيامهم. اكتُب لتقول لمن سيأتون بعدنا أننا كنا هنا، وأننا مررنا بحكم التجربة الإنسانية بكثيرٍ مما تمرّون به، وأننا نجونا، وأنكم ستنجون. أعطِ قرّاءك الأمل، فهو ما لا تشتريه الأموال ولا تهديه الحياة مجانًا.

أذكر كل المرات التي شعرتُ فيها باليأس، وبالخوف من ألّا أُفهَم، بالعجز، وبالقلق من كوني شاذةً عن طبع الإنسان؛ فقرأت كتابًا هدّأ روعي، وطمأن قلقي، وكانَ لي أُنسًا في وحشتي. أذكر كل المرات التي أنهيتُ فيها كتابًا في ليلةٍ واحدةٍ فشعرتُ أن في الحياةَ خير، وأن من كتبَ عاشَ ما عشت، وعبّر عني، فلمَس بداخلي شيئًا سرّ خاطري، وجبَر ما احتاج جبرًا في روحي. اقرأ واكتُب عزيزي القارئ، اكتُب، لا ليقولَ أحدٌ أنك كتبت، بل لتفرغ كذلك شيئًا مما تراكم في روحك،

لم يكن من العبثِ أن كانت أولى كلمات الوحي "اقرأ"، ولا من العبثِ حين كان الردّ ملحًّا على إجابته عليه أفضل الصلاة والسّلام "ما أنا بقارئ"، فاقرأ ولا تقل ما أنا بقارئ. والكتابة عندي نتاجُ القراءة، فقط القارئ يستطيعُ أن يعرف أهمية ما كُتِب، وما سيُكتَب. وليست الكتابةُ نتاجَ العمر ولا نتاجَ قصص الحب، بل نتاجَ تجربةٍ إنسانية يعبر عنها الانسان بالمفردات، ونحنُ أهل اللغة وأقدر الناس على الكتابة التي تعينُ في زمنٍ قادمٍ أبناءنا على أيامهم كلّها.

اكتُب كي تحيا، كي تقول: أنا وثّقتُ تجربتي. اكتُب لتشعر أكثر، لترى في أصغر التفاصيل ما يستحق السرد، والتوثيق. الكتابةُ، طريقة من سبقونا في توثيق اللحظة، حين لم يكن هنا "كاميرا" لتوثق حدثًا مضى، أو تلتقط لحظةً لا يريدُ صاحبها أن ينساها، أو توثق شخصًا كلّه مضى. ولا ينفك يرافقني ما كتبه شكسبير لمحبوبته حينَ قال: "وما زالَ ثمة من يقرأ شِعري هذا، فهو يمنحكِ الحياة"، فقد عرفَ أن شعره أعطى الحياة لمن أحبّها ما زال يقرؤه أحد.

وكثيرٌ من الكتّاب غيره لا زالت أسماؤهم تذكَر وتتصل بهم عقولنا وأرواحنا لمجرد أنهم كتبوا؛ فالكتابةُ أول آلة تصويرٍ لا تفنى صورتها أبدًا، فما زال ثمّة من يقرأ كلمةً كتبتَها أنت: فأنتَ حي. فاكتُب، ولا تقل ما أنا بكاتب. اكتُب لنا، لمن يتعطشون لرؤية الحياة من منظور الآخرين، لمن يتحرّقون شوقًا للتعبير عنهم بكلماتِ الآخرين، لمن سيقرؤك ذاتَ يومٍ ويقول: كانَ هنا، كانَ بيننا، كان حيًّا.