بنفسج

إنسانة قبل أي شيء

الخميس 14 ابريل

في طفولتي، لم أعرف أي تمييز ضد النساء؛ والداي طبيبان مثقفان، كانا حائطا، صد بيني وبين نظرة المجتمع النمطية المغلوطة لكل ما هو مؤنث. قضيت فترة طويلة من حياتي أنكر الحركة النسوية وأرفع شعار الممثلة المصرية ياسمين صبري: "مفيش قضية أوي". كنت أراهم إما مغاليات أو موتورات يعممن الخاص ويشخصن العام. إلى أن خرجت للحياة العامة؛ رأيت، تعجبت، غضبت، ثورت، وقررت أن أكون أنا كيفما خلقني الله ورباني أهلي وأردت لنفسي بلا قولبة ولا رضوخ. وهنا ما رأيته من تنميط يمارسه المجتمع في حق الإناث، افتتاح مناسب لمشاركتي في مدونة تدعم المرأة؛ لتصل لما هي أهله، لا الفتات الذي يرغبه المجتمع.

طفلة لطيفة، مراهقة مطيعة، شابة مجتهدة، زوجة صالحة أم متفانية، امرأة عاملة، أو لا، على حسب وضع الأسرة ورغبة الزوج، المسار الذي يرتضيه المجتمع للمرأة ويعاقب من تطالهن يداه ممن شذذن عنه. أذكر هنا موقف معلم اللغة العربية في مدرستي الإعدادية، كنا في مناظرة حول عمل المرأة بين مؤيد ومعارض، كنت في صف التأييد –بالطبع-، أخذ يستنكر عمل المرأة وقال:" تربي أولادها وتزوجهم ثم تذهب للحج وتمكث في منزلها حتى تموت"، هكذا اختصر حياتهن في سطر واحد.

ظلم آخر تتعرض له الفتاة منذ نعومة أظافرها، لا بسبب الاحتقار إنما الإعزاز، الحماية الزائدة تُربى الفتاة على أنها أميرة مصانة، لا تحتك بالناس، لا تتعلم خبرات الحياة اليومية، لا تعرف لغة الشارع –ما لا يسعها جهله منها-، والنتيجة شابة بسذاجة الأطفال.

نموذج هذا المعلم والزوج وأبو البنات منتشر بكثرة –مع الأسف-. بالطبع، الحال تحسن في السنوات الأخيرة، ودعوات تمكين المرأة في ازدياد لكن يأتي هذا على حساب الاستقرار والدعم الأسري في أغلب الأحوال، ضريبة تدفعها المرأة لكونها نفسها لا أكثر ولا أقل، ولا أنكر وجود داعمين بالطبع لكنهم مازالوا قلة.

ظلم آخر تتعرض له الفتاة منذ نعومة أظافرها، لا بسبب الاحتقار إنما الإعزاز، الحماية الزائدة، تُربى الفتاة على أنها أميرة مصانة، لا تحتك بالناس، لا تتعلم خبرات الحياة اليومية، لا تعرف لغة الشارع –ما لا يسعها جهله منها-، والنتيجة شابة بسذاجة الأطفال. نموذج يوافق المسار المذكور أنفًا، ما يخفى عنهم أنه إذا غاب الملك أو تأخر ظهور الأمير تتخبط ويتلاعب بها الأشقياء، مفاجأة الحياة لمن يرفضوا التأقلم معها. أقارن هذا بمنهج والداي –بارك الله فيهما- وأتعجب.

لما أنهيت دراستي الجامعية ذهبت لزيارة أستاذي، أحبه وأحترمه كثيرًا، لا ريب وهو من أعاد لي شغفي بالهندسة بعدما فقدته على يد من سبقوه، سألته من أين أبدأ؟ قالي لي تزوجي وأمكثي في المنزل، تعجبت أأنا فاشلة لتلك الدرجة؟ كيف؟ ألست الخامسة على دفعتي؟

كانت والدتي تقول لي دومًا: "نحن نربي إنسانًا لا فتى أو فتاة". منهج استنكره الكثيرون لكنهما ظلا على موقفهما. عرفاني على الحياة تدريجيًا منذ نهاية المرحلة الابتدائية، لما ذهبت للجامعة شق علي ترك المنزل، أردت اختيار الأسهل والأقرب على حساب جودة التعليم، وقف والدي ضدي -من المرات القليلة التي فعل فيها هذا- شجعني على البعد وخوض غمار الحياة بمنأى عنهما. الآن أعيش بمفردي –أغلب الوقت- إما لدراسة أو عمل، ما يزالا داعمين، لا يجدان أي غضاضة في سفري دونهما داخل مصر وخارجها بشرط توفر عوامل الأمان، في مجتمع أخر هذه بديهيات، في عالمنا العربي قلة من يعطوا الأبناء حقوقهم الإنسانية مع الحفاظ على روابط الود والصداقة، باختصار علاقة مريحة داعمة بلا وصايه زائدة ولا كبت تحت ستار المحبة.

لما أنهيت دراستي الجامعية ذهبت لزيارة أستاذي، أحبه وأحترمه كثيرًا، لا ريب وهو من أعاد لي شغفي بالهندسة بعدما فقدته على يد من سبقوه، سألته من أين أبدأ؟ قالي لي تزوجي وأمكثي في المنزل، تعجبت أأنا فاشلة لتلك الدرجة؟ كيف؟ ألست الخامسة على دفعتي؟ وهو من أعطاني درجة الامتياز في مشروع التخرج. ظهر الاستنكار على وجهي، كنت أظنه أكثر تحضرًا وتفهمًا، إن أردت ذلك لما أتيت إليك، ولا سألت مثل هذا السؤال، سألني عن أحلامي، تحدثت باستفاضة، دلني على خط البداية، تمسكت به وأنا على الطريق الآن –بفضل الله ومنته ونصيحة أستاذي الموفقة-، مازالت مستنكره ردة فعله رغم مرور قرب الثلاث سنوات عليها، مدرس العربية في المدينة الصغيرة والأستاذ الجامعي المرموق والنظرة واحدة.

مواقفهم جعلتني أتسائل: ترى أين تذهب أحلامنا حين نتخلى عنها؟ لا تتلاشى بالطبع، تظل كامنة في أعماقنا، تخرج إما غضب على من سلبونا إياها، برغبتنا أو بمساومات، أو تجعلنا ندفع أبنائنا دفعًا؛ لتحقيق ما تخلينا عنه، نتحايل على الحياة، ونتجاهل جبران حين يقول: "أولادكم ليسوا لكم...أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها"، لا لشيء إلا كوننا ضعاف.

في طفولتي كان عمي ينعتني بالجريئة، أعبر عن نفسي بوضوح وصراحة لا يقبلها مجتمعنا المنغلق –نسبيًا- حينهما، دارت الأيام وصرت مثار فخره –بفضل الله-، يباهي الأصدقاء والزملاء بي. صنيعة والداي التي استنكرها في أطوارها الأولى، فلولا حرية الرأي والتعبير لما تشكل الفكر ولما اتضحت الرؤى.

المهم أن مقالي هذا ليس للتباهي أو إثبات الصواب، هو ثورة صغيرة على من يرفضوا الانصياع لمتطلبات الزمن، ويحجبوا عن الناس حقوقهم الأساسية، لا لشيء إما لرغبة في السيطرة أو لسعي حثيث لإثبات الأفضلية. من حق كل إنسان أن يعيش الحياة التي يرتضيها لنفسها، طالما لا يخالف شرع، أما العرف؛ فالقبلية به أولى، ويا فتيات: أنتن بالخيار..حياتك ملكك، تزوجي من ترضينه وأعملي إذا عن لك هذا أو تطلبت ظروفك؛ لأنه "ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه".