بنفسج

عندما يكون الرحيل شخصيًا: عن وإلى رضوى عاشور

السبت 06 نوفمبر

عند رحيل أحد كُتّابك المفضلين يكون الرحيل شخصيًا جدًا، فهم لم يصنعوا فقط جزءًا من إرث هذا الوطن، ولكنه جزء من تاريخك الشخصي، من عالمك الذي لا يعرفه أحد، رحيلهم شخصي حتى وإن لم تلتقdهم. منذ طفولتي وأنا متعلقة بفلسطين وبالقضية؛ فنحن الجيل الذي شاهد الانتفاضة في الأخبار وحفظ الأغاني عن فلسطين، ولكني لم أعرف فلسطين كوطن، إلا حين قرأت لمريد. لم أحب فلسطين؛ البيت والأرض والناس، بعيدًا عن المقدسات والتاريخ إلا بعد أن قرأت له، ثم قرأت لرضوى.

لم أفهم ما هي الغربة إلا عندما قرأت وصفه لها، عندما عرف أنه لن يعود لفلسطين "الغربة كالموت، المرء يشعر دائمًا أن الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين، منذ ذلك الصيف أصبحت ذلك الغريب الذي كنت أظنه دائمًا سواي". ولم أعرف أن الحب يمكن أن يُصاغ بهذا الجمال والصدق والعمق إلا حين قرأت له عن رضوى. ولا أعرف رجل رثى امرأة، فقال عن "جمال رأيها" إلا مريد “رضوى جمال رأيها، ورأيها جمالها". تخيلت دائمًا أن نلتقي يومًا فيحكي لي عن فلسطين وعن رام الله وعن الجسر، عن شجر الزيتون، وعن رضوى.

تقول رضوى: "أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة؛ لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني وتخيفني.. أنا مولعة بها". أعتقد أن رضوى علمتني كثيرًا عن الكتابة وعن الحكاية دون أن نلتقي، لأن كثيرًا من الكتابة يُعرف بالقراءة، وقليلًا من الكتابة يحتوي على كل ذلك العمق وكل تلك البساطة معًا.

لقد دخلت بيوت فلسطين عن طريق مريد، ودخلت عالم رضوى عاشور أيضًا عن طريقه. أتذكر حين وقفت في إحدى المكتبات في حي الزمالك أبحث عن كتاب جديد أقرؤه، فعادة أنا لا أحدد أي كتاب سأشتري قبل أن أذهب، فاختيار الكتاب في ذاته هواية. تلفّت حولي فوجدت كتابًا بالإنجليزية لكاتب يدعى مريد البرغوثي، لفت نظري وكدت أشتريه حتى اكتشفت أنه مترجم من العربية، فذهبت للقسم العربي لأبحث عن "رأيت رام الله".

قرأت "رأيت رام الله" وعرفت رضوى، فشرعت في قراءة كتب رضوى عاشور واحدًا تلو الآخر؛ الطنطورية وثلاثية غرناطة التي قرأتها منذ أكثر من عام، ثم أثقل من رضوى وأطياف. كلما قرأت كتابًا لرضوى شعرت أنني إحدى تلميذاتها، أجلس معها في قاعة المحاضرة؛ أستمع واقرأ وأحاول المشاركة في النقاش. لم أدرس الأدب، ولم أكن تلميذة لرضوى إلا من خلال كتبها، وهي تكفي. أخذت كتب رضوى عاشور معي أينما ذهبت، ولكنها دائمًا بشكل ما تعيدني لقاعة الدرس.

في سيرها الذاتية، وهي من كتبي المفضلة، ينتابني شعور أنني أعرفها بشكل شخصي، أفكر أنني إذا كنت سألتقيها، فسيكون ذلك في أحد مقاهي القاهرة، نجلس ونشرب فنجانينَ من القهوة في هدوء في الصباح الباكر، ونحكي عن مصر وعن القاهرة وعن الاختيارات الكثيرة في الحياة، عن الفرص، وعن الحفاظ على المبادئ وعن تحقيق الأحلام، وسنحكي كثيرًا عن السفر وعن الحب.

تقول رضوى: "أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة؛ لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني وتخيفني.. أنا مولعة بها". أعتقد أن رضوى علمتني كثيرًا عن الكتابة وعن الحكاية دون أن نلتقي، لأن كثيرًا من الكتابة يُعرف بالقراءة، وقليلًا من الكتابة يحتوي على كل ذلك العمق وكل تلك البساطة معًا، ونادرًا ما تتعلم الكتابة من أحدهم دون أن تلتقيه. وأمر جميل أن يقص عليك كاتب شيئًا بحجم سقوط الأندلس، أو قصة المخيم، دون أن تشعر أنه ينال من جهلك بالتاريخ.

وأعرف جيدًا أنها أخبرتني بشكل ما أنني أستطيع أن أصل. لقد كانت الرسائل واضحة بين السطور، كما أنها قالت لي كثيرًا أن الأحلام يمكنها أن تتحقق، وأن هناك دائمًا شيئًا جميلًا سيحدث. وفوق كل ذلك علمتني كيف يكون الحب، فلا يوجد كتاب عن سيرتها يخلو من مريد، ويكفي أنني عرفت مريد من كتابات رضوى ورضوى من كتابات مريد، فذهبت معهم في رحلة طويلة إلى بلاد وبيوت كثيرة، ولكنها، لسبب ما، تعود دائمًا إلى القاهرة.

لا أعرف كيف يطل عليّ كل ذلك الأمل من كتبها رغم ثقلها. فهي لا تقص علينا سيرة أيام عادية، ولكن أيام فارقة في تاريخها الشخصي، أو في تاريخنا جميعًا، أو تاريخها الذي يتقاطع بشكل ما معنا برغم اختلاف الزمن في أحيان كثيرة، هي تحكي عن أثقل ما فينا وأثقل ما مررنا به. ولكن لسبب ما يظل الأمل حليف تلك الكتب، وحليف كل لحظة أجلس أنا وقهوتي، وكتاب تقص علي رضوى عاشور من خلاله شيئًا ساحرًا عن بعض أيام مضت تشبه كثيرًا أيام مازالت هنا.

لقد علمتني رضوى عاشور كثيرًا حتى صارت جزءًا من عالمي، وجزءًا من يومي، وحتى أصبحت أستاذتي التي أودّ أن أخبرها حين أكتب بضعة أسطر، ويثني بعض الناس عليّ. فإلى رضوى عاشور: شكرًا على كل ذلك الجمال والأمل والحب.