بنفسج

لأجل عينيك.. حبيبتي يافا

الثلاثاء 07 سبتمبر

حبيبتي يافا، أحببت أن أستهلّ كتاباتي في "بنفسج" برسالة لكِ؛ لأن الكتابة هي أغلى ما يسعني تقديمه لعينيكِ الحالمتين، ولأنك صاحبة الفضل في هذه التجربة؛ فبقدومك فُتحت أمامي كل أبواب الخير. أعتذر منك لأنني أكتب لكِ رسالتي الأولى بيد واحدة، ما كان ذلك عن عدم اكتراث مني وإنما لأنني اضطررت لتدوينها مباشرة على هاتفي المحمول حيث إن الكتابة على الورق تقتضي طقوسًا خاصة، وتستلزم أن تكونا كلتا يديّ فارغتين، لكن بات هذا بوجودك مهمة شبه مستحيلة؛ فهناك يد -على الأقل- يجب أن تهدهدك وتظل تحت خدمتك، حتى وإن تكرمتِ بالعفو عنها لساعات قليلة يوميًا، عليّ الإبقاء عليها تحت طلبك وأمرك.

فقط لأجل عينيكِ؛ تخليت عن طقوس كتابتي كاملة، قلمي الرصاص ومحايتي، دفاتري الأنيقة ومشروبي الساخن، تخليت حتى عن التجول في المكان بين الحين والآخر، اختلفت طقوسي التي طالما ظننت الأفكار لا تزورني - بفضل من الله- إلا إكرامًا لجهودي بتجهيزها وكثيرًا ما خِلتُ التعابير المنسقة لا تتكشف لي سوى تقديرًا لتأنقي باستقبالها، ويبدو أن هذه ليست آخر الطقوس التي ستتغير بصحبتك؛ ولكن هكذا أصبح الأمر أكثر يسرًا وسهولة.

يا يافا، اخترتُ وأباك لكِ اسمًا يفوق غيره من الأسماء التي تحمل معناها فقط، اخترنا لكِ اسمًا ذا قضية وأصل ومعنى، حتى وإن أضحت هذه القضية بين الناس مُهمَلة، وأصبح هذا الأصل مجهولًا منسيًا، ستظل مهمتك يا صغيرتي الدفاع عن قضيته وتذكيرهم بأصله قبل توضيح معناه.

 كل ما عليّ أن أحمل هاتفي المحمول وأنوي الكتابة، ثم بابتسامة منك رقيقة، صافية، يصفو ذهني، وبلمسة حانية لوجنتيكِ الدافئتين أهتدي إلى أفكار أكثر، وبنظرة أخاذة من عينيكِ الجميلتين تتسابق الكلمات بين أصابعي كأنما تدوِّن نفسها. وقبل كل شيء، لا أتوقع منكِ يا بنيتي أن تفهمي حديثي هذا مع المرة الأولى التي تطالعينه فيها، فأنا أعلم أن كلامي ربما يفوق قدرتك على الاستيعاب حينها، ولكنني أثق بأنكِ في كل مرة تطلعين عليه ستنالين منه حدًا أعمق من سابقه.

يا يافا، اخترتُ وأباك لكِ اسمًا يفوق غيره من الأسماء التي تحمل معناها فقط، اخترنا لكِ اسمًا ذا قضية وأصل ومعنى، حتى وإن أضحت هذه القضية بين الناس مُهمَلة، وأصبح هذا الأصل مجهولًا منسيًا، ستظل مهمتك يا صغيرتي الدفاع عن قضيته وتذكيرهم بأصله قبل توضيح معناه؛ فالمعنى سهل يبديه جليًا وجهك الرقيق الجميل، والأصل يكفيه أن امتد بنداء الناس لكِ قبلوا يافا أو رفضوها، أما القضية يا ابنتي فهي ما سيحتاج منكِ بحثًا وثقافة وجهدًا، أسأل الله أن يكون عونًا لكِ فيهم.

وأنا هنا يا صغيرتي أود أن أتوقف قليلًا لأطلب منكِ أن تسامحيني وأباكِ إن كنا حملناكِ بهذا الاسم عبئًا ثقيلًا، فقط خِلنا منذ اليوم الأول لكِ في رحمي أننا نشم رائحة برتقال يافا تفوح من وجنتيكِ، وأردنا أن نخلد "يافا" فيكِ، وأن يُرفض التطبيع مع كل مرة يُنادى فيها اسمك، وأن يعترف بالاحتلال كل من ناداكِ ممن ينكرونه.

صدقيني أنا لا أحلم لكِ بأي شيء على الإطلاق، بل لا أتصورك في أي قالب، لأن القالب الذي يسعك خُلِق للتوّ بميلادك، وكلي يقين بأن لكِ قالبكِ الخاص وطابعكِ المميز كما لكل إنسان على هذه الأرض وسوف نسعى سويًا.

حبيبتي، بينما كنت أرتب اليوم ملابسك الدقيقة، شممتها حتى امتلأ صدري برائحتك الناعمة التي تغمرها، وامتلأت معه عيناي بالدموع؛ فقد أدركت فجأة أن قياس ملابسك الأول لم يعد مناسبًا، نحيتُ القطع جانبًا، واستبدلتها بأخرى تحمل قياسًا أكبر، ليتحول بنطالك الدقيق إلى صغير؛ وتتحولين أنتِ أيضًا أمام عيني -بحفظ الله من دقيقة إلى صغيرة- ثم إلى طفلة، ثم صبية، ثم آنسة.

 وأنا هنا لا أصفكِ في أي مرحلة ذكرتها بأي شيء لأنني -صدقًا- لا أريد منكِ أي شيء، لا أن تحملي النور للعالم ولا أن تتفوقي في شتى الجهات والدروب، ولا ما شابه من الأحلام الشاقة التي تُحمِّلكِ من الضغوط ما يفوق رقتك وبراءتك ويشتت مهاراتك ويضيعها، والتي تفسد حياة حالميها، ومن يحلمون لهم وتذهب السعادة والرضا عنها إلى غير رجعة. صدقيني أنا لا أحلم لكِ بأي شيء على الإطلاق، بل لا أتصورك في أي قالب، لأن القالب الذي يسعك خُلِق للتوّ بميلادك، وكلي يقين بأن لكِ قالبكِ الخاص وطابعكِ المميز كما لكل إنسان على هذه الأرض وسوف نسعى سويًا.

 خطوة بعد خطوة، على مهلٍ نحو اكتشافهما وتنمية كل جميل يصادفنا في الطريق إلى ذلك. اعلمي يا جميلتي دائمًا أنني أحبك دون شروط أو قيود أو إلزامات، أحبك من كل قلبي وأنتِ دقيقة، وصغيرة، وطفلة، وأنتِ صبية، وآنسة، هكذا فقط بهذه البساطة، فعلتِ ما بوسعك، أو لم تفعلي أي شيء على الإطلاق، سأظل أحبكِ من كل قلبي وبشدة الحب ذاتها. كل ما أرجوه فقط هو أن تتخذي من هذا الحب درعًا وسلاحًا في حياتك كلها، درعًا يحميك من كل مكروه وفتنة وسلاح به تحاربينهما وتصرعينهما.

 الفتن يا صغيرتي كثيرة كثيرة، ولكن بداخلي شيء غريب يكاد يريني صمودكِ أمامها وتصدِّيكِ لها ببسالة، كالتي عهدتها فيكِ طوال الأشهر التسعة التي مكثتيها بجوار قلبي تطمئنينني وتدعمينني ضد كورونا. وأحب ما أريد إخبارك إلى نفسي هو مشاعري لحظة رؤيتي لك لأول مرة لأجبتكِ بمزيج يفوق تصورك، إنها السعادة العارمة، الخوف من اللاشيء، القلق المُكَبِّل، اجتمع على قلبي ثلاثتهم بذات اللحظة. فأنتِ أمانة جميلة وهبها الله لي، تشاركني حياتي، وأنا أكتب هذا الآن ولا أعجب من ذاك المزيج، فمنذ ولادتك تبدلت حياتي، أصبحت كل المشاعر التي تنتابني على درجة مقاربة مما وصفت لكِ، معظمها تحتل من مراتب التعقيد درجة عالية، والعيب مني لا منكِ يا هريرتي.

 أنتِ براءة حياتي كلها وما أبعدكِ عن التعقيد والثقل! قصدت أنها جميعًا مشاعر مضطربة إلى درجة لا يمكن أن تفهميها قبل اليوم الذي تكونين فيه أمًا مثلي، وأن تكوني أمًا هو أمر ممكن أما المستحيل فهو أن تكوني مثلي؛ فللأسف لن تحظي أبدًا بطفل بجمالك، ولو كان بوسعي يا ابنتي، لوهبتكِ لكِ. نعم يا صغيرتي! أنتِ "طفلة غير عادية"، أنا أراكِ دائمًا -وسوف أظل أراكِ- طفلة غير عادية، ووجودك بحياتي جعلني امرأة غير عادية؛ بداية من السكينة التي أرسلها وجودك في أحشائي إلى قلبي وقتما استلقيت على سرير الولادة، كأنما أنا على وشك خلع ضرس لا ولادة.

 ومرورًا بنضج الساعات الأولى والأيام الأول التي حملتك فيها بيدي اللتين لا تزالا صغيرتين فوق جرحي ليتدفق الحليب مني إليك، وأيضًا مرورًا باستيقاظك المتكرر لأحملك وأضمك إلى صدري حتى تطمئني وتبتسمي لي ابتسامتك اللطيفة التي تنعش روحي وتربت على قلبي كأنما في اطمئنانك بين يدي، وابتسامتك مكافأة على متاعب نتعرف عليها يوميًا ونواجهها سويًا، واعتذار عن إيقاظي في ساعات الليل المتأخرة، أما النهاية يا حبيبتي، فهي ما أرجو الله ألا تأتي أبدًا.