بنفسج

مطلوب عَين مُحِبٍّ

الإثنين 15 فبراير

صادَفتْني في الفترةِ الأخيرةِ مِئاتُ المنشوراتِ، عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي، تتَّفِقُ في مضمونِها على أنّ القُربَ من الآخرين تعبٌ للنفس، وعِبءٌ يصنعُ المشاكلَ، ويُضيعُ راحةَ بال الأفرادِ. إذًا، تتَّفِق الناشراتُ (النساءُ الجدد) في الموضوعِ، على أنّ هذا الزمان ليس زمنَ الصداقةِ أوِ الأُخوّةِ أو العائلةِ، بل هو زمنُ المصالحِ والمطامعِ، وأنَّ الجنّةَ تكمُنُ في مغادرةِ كلِّ التفاصيلِ، والبُعدِ عن الجميعِ.

المَثلُ الشعبيُّ يقولُ "الجنة بدون ناس ما بتنداس"، هذه الجدليةُ دفعتْني للتعَمُقِ أكثرَ في مفهومِ البُعدِ عن الناسِ الذي تَجِدُ فيه المِئاتُ من النساءِ الجُدُدِ، المَلاذَ الآمِنَ وراحةَ البالِ، وهنا يجبُ أنْ نُنَوِّهَ إلى أنّ اعتزالَ الناسِ لأغراضِ الحياةِ والعبادةِ شيءٌ مختلفٌ تمامًا عمّا تَقصدُه نساءُ "السوشيال ميديا"، إذْ إنّ مفهومهنَّ يَنصُّ على قطعِ العلاقاتِ الأسريةِ المترابطةِ، وتربيةِ الصغارِ على مفاهيمَ غريبةٍ وعجيبةٍ وغيرِ منطقيةٍ!

وبدأتُ أطرحُ في مخيّلتي: هل فِعلا يَبتَعِدْنَ عن كلِّ الناس! هل تستطيعُ النساءُ الجدد أنْ يُكمِلنَ حياتَهُنّ دونَ أهلٍ، دونَ أصدقاءٍ، دونَ جيرانٍ؟! هل تستطيعُ الواحدةُ منهنَّ هجرةَ حماتِها وأمِّها على حدٍّ سواء؟ هل تُغِلقُ خطوطَها مع شقيقاتِها وشقيقاتِ زوجِها؟ هل يتساوَى عندها كل الأشخاصِ، أَم أنّ البُعدَ في مفهومِهِنّ يَخضعُ لحسبةِ "خيار وفقوس"! فما تقومُ بالبعدِ عنه هم فقط العائلةُ الجديدةُ التي انضمّتْ إليها مؤَخَّرًا، إذ إن هذا الصنفَ من النساءِ يتخيَّلنَ أنّ عائلاتِهنّ فقط هم "الصح"! وأنّ عاداتِ أمِّها بالطبخِ والتنظيفِ والتربيةِ هي الحقيقةُ الثابتةُ، وأنّ ما تقومُ به حماتُها من طرُقٍ هي ضروبُ الخيالِ التي لا يمكنُ أنْ تقتنعَ بها!

والحقيقةُ أنّ علاقاتِ النساءِ الجدد، الاجتماعيةَ، قائمةٌ على مجموعةٍ من المَحاورِ السلبيةِ التي تَنبعُ من ثقافةٍ مهّدتْ لها، قديمًا، شاشاتُ التلفازَ، وبعضُ أساليبِ التربيةِ الخاطئةِ، دونَ أيِّ درايةٍ منّا، تقولُ المَحاورُ: "إنّ عائلةَ زوجِك ومحيطَه وشقيقاتِه وأمَّه وزوجاتِ أخيهِ، لا يَقُمنَ بأيِّ تصرُّفٍ عفْويٍّ بالمُطلقِ! وكلُّ كلمةٍ أو تصرُّفٍ أو اتصالٍ أو سؤالٍ يَقُمنَ فيه لغرضٍ مُعيَّنٍ!

فمرَحبًا التي تقولُها شقيقتُك تختلفُ عن "مَرحَبًا" التي تقولُها شقيقةُ زوجِك، والضَّجرُ الذي تُظهِرُه شقيقتُك جرّاءَ شقاوةِ أولادِك يختلفُ كُليًّا عن الضَّجرِ الذي تُظهِرُه شقيقةُ زوجك، لنفسِ السببِ. اتّصالُك على زوجةِ أخيك للاستعانةِ بها ببعضِ طرُقِ إعدادِ الحلوياتِ يندرِجُ تحتَ توطيدِ العلاقاتِ، أمّا اتصالُكِ على إحدى سلفاتِك يُعدُّ تنازلًا لا يمكنُ أنْ تفعليهِ -ولو على قطعِ رقبتِك- حتى لا تدركَ سلفتُكِ أنها صاحبةُ قيمةٍ وواجبٍ! فمُجرَدُ الاتصالِ قد يُشعِرُها أنكِ بحاجتِها، وأقلِّ منها خبرةً.

إنّ أعظمَ خدمةٍ يقدِّمُها الإنسانُ لنفسِه، أنْ يُحبَّ نفسَه بكُلِّ تفاصيلِه؛ لون بشرتِه، طريقة حديثِه، حسَبَه ونَسبَه، شكل بيتِه، اهتماماته وميوله، ولا يخشَى من المقارنةِ أو من أنْ يصادفَ شخصًا أفضلَ منه بأيِّ صفةٍ، ومن ثَمّ تَبَنّي نظريةَ المشاركةِ في مجتمعٍ مختلفِ الأنماطِ.

وللأسفِ، تقيسُ بعضُ نساءِ اليومِ علاقاتِهنَّ بمقياسِ الغيرةِ، والكيدِ، والمعايرةِ، "واطلّعْ بعين بشوفك بالاثنين"، خاصةً على صعيدِ الجيرانِ، وأهلِ الزوجِ، وعائلتها الجديدة بكافة أفرادِها؛ لذا تكبَرُ في غَمرةِ علاقاتِ هشّةٍ تنهارُ عندَ أيِّ سوءِ فهمٍ أو حدَثٍ عابرٍ، فتقيمُ حربًا لا ناصرَ فيها. بَيدَ أنّ فيها امرأةً ذاتُ مقاييسَ معيّنةٍ، تجيدُ القطْعَ أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخَرَ، ثُم تقولُ بصوتِها العالي:" اعتزالُ الناسِ راحة"!

قبلَ أيامٍ غيرِ قليلةٍ، وعلى عشراتِ المجموعاتِ النسائيةِ، تساءلتْ إحداهُنَّ: لماذا عندما تسبنا أمهاتُنا، يَقُلنَ لنا أنتُنَّ "طالعين لعماتكم"! وفى مجموعةٍ أخرى طرحتْ إحداهُنّ سؤالًا: "هل أنتِ العمّة الحرباية"! هذه الأسئلةُ وغيرُها تَنمُّ على وجودِ خلَلٍ متراكمٍ في هذه العلاقةِ العائلية، قائم على قياسٍ خاطئٍ من النساءِ سابقةِ الذِّكرِ، وأنّ هناك تغذية سلبية تتمُّ بشكلٍ مباشرٍ أحيانًا، وبشكلٍ مُبطَّنٍ أحيانًا أخرى، تَحمِلُها على عاتقِها سيداتُ الاعتزالِ النسبيّ اللواتي يَقُمنَ بتأسيسِ علاقاتٍ ضِمنَ مجموعة من المعاركِ مع طواحينِ الهواءِ، ضِمنَ نظريةِ المؤامرةِ التي تعيشُها منذُ نشأتِها الأولى في بيتِ عائلتِها.

إلى النساءِ الجديداتِ: إنّ أعظمَ خدمةٍ يقدِّمُها الإنسانُ لنفسِه أنْ يُحبَّ نفسَه بكُلِّ تفاصيلِه؛ لون بشرتِه، طريقة حديثِه، حسَبَه ونَسبَه، شكل بيتِه، اهتماماته وميوله، ولا يخشَى من المقارنةِ أو من أنْ يصادفَ شخصًا أفضلَ منه بأيِّ صفةٍ، ومن ثَمّ تَبَنّي نظريةَ المشاركةِ في مجتمعٍ مختلفِ الأنماطِ، فعندَ الارتباطِ بعائلةٍ جديدةٍ، مَهما حاولت الانسلاخَ عنها، فأنت جزءٌ منها، لأنه باختصارٍ لا يُمكِنُك المحافظةُ على العِرقِ السامي الذي أتيتِ منه، فأطفالُك، بصفاتِهم وبشرَتِهم ونوعيةِ شعرِهم و سلوكياتِهم، خليطٌ منكِ ومن زوجِك، وإنّ عينَ المُحبِّ التي ترى زوجَك مختلفًا عن عائلتِه، هي ذاتُها عينُ المُحبِّ التي تحتاجينَها لترَي عائلةَ زوجِكَ أشخاصًا طبيعيينَ محبَّبينَ إلى قلبِك، فلا تَضطَّرينَ إلى اعتزالِ العالمِ من أجلِ راحةِ بالِك.