بنفسج

بوح لا يشفي الغليل

السبت 04 فبراير

مذ حاولت أن أعرف أنواع البشر وطبائعهم التي لا تُحصى، وماذا يصنعون من أجل الشعور بالنصر والرضا بداخلهم، مذ أمعنت في فهم محاولات المرء للحصول دائمًا على نفس المكانة التي اعتاد أن يحصدها في الماضي، بنفس درجة القبول والاحتضان رغم تغير الأزمنة والأماكن، وما يُكلفه هذا ويُكلف مَن حوله مِن ثمن، لتكشف عن أخاديد عميقة في النفوس البشرية الواهنة، حكايتي بدأت.

تطوق الإنسان معتقداته ويبقى رهن أفكاره عما حوله، فيخلق حوله هالة من سراب تريحه، ظنًا أنها ستشفيه من سأم المواجهة بدلًا من أن يُجازف لينغمس بين طيات الحقيقة، كانت مجاراة المشاعر الوهمية، والانصياع للموجات المستعارة هي عين الأزمة، فلم تَدفع سوى للمزيد من النقم والهلاك.نمط الواقع الغريب الذي نعايشه حاليًا، وتلك الحياة الاستهلاكية البحتة التي طالت المشاعر والنفوس، وفتكت بها.

انتقال حالة التشبع بالرضا من خلال حقيقة الرضا عن النفس بعض الشيء إلى لهيب إرضاء ومجاراة الآخرين، على حساب كل ما هو مصيري وجوهري، كان لب تآكل شتى معاني الراحة، بينما كنا نتقوى بالرقة ونكتوي بالهم، لم يكن الصدأ في الأرواح المُتعبة أو المستسلِمة أبدًا، بل الصدأ في أن تحمل البأس في يد، واليأس في اليد الأخرى.

الآن بعد أن عشنا في زمن بمثل هذا العنف، والشهادة الزائفة، والضلالات، عالم لا ينتهي من الافتراءات والأكاذيب من أجل الربح. أصبح لا بديل، فأنت مُجبر على أن تصل إلى ذروة الشعور دائمًا إلى التظاهر بمنتهى منتهى الألم، ومنتهى منتهى النشوة، أو إلى أقصى درجات الحزن والفرح.

انتقال حالة التشبع بالرضا من خلال حقيقة الرضا عن النفس بعض الشيء إلى لهيب إرضاء ومجاراة الآخرين، على حساب كل ما هو مصيري وجوهري، كان لب تآكل شتى معاني الراحة، بينما كنا نتقوى بالرقة ونكتوي بالهم، لم يكن الصدأ في الأرواح المُتعبة أو المستسلِمة أبدًا، بل الصدأ في أن تحمل البأس في يد، واليأس في اليد الأخرى، ويَكمُن الزيف، كُل الزيف في أن تقول آمين من وراء الأمنيات الغريبة عنك وربما الحقيرة، لمجرد أن مردديها أوهموك أنها السبيل، وما أصعب على النفس من الاحتراز من الأشياء المرغوب فيها.


اقرأ أيضًا: الإلهام الصامت: أن تكون همزة وصل إلى الله


الحقيقة هي أن العديد من مواطن القوة تلك التي يتظاهر بها المرء رضخت للهدم والانهيار في أولى اختباراتها، والتي إلى نحو كبير لم تكن يومًا ما مواطن قوة، بل على النقيض، فهي ما زادت الإنسان كبرًا وجحودًا، وخاصة عندما تتصادم مع ما يناقضها في الآخرين، تلك الرغبة في عدم الاعتراف بشفافية بمدى الغرور البشري الطاغي والفكر المتناقض الممتليء بفراغه، لا زالت هي شرارة الاحتراق دائمًا، فكانت ضبابية المشهد سببًا قويًا في أن يصبح السيف على العنق لا في اليد. وأن يتحول الثأر إلى رثاء، وأن ينقلب الشادون إلى نعاة.

مر الكثير في اللحظات التي وقف فيها المرء لاستيعاب ما قد حدث ومجاراة ما يحدث بلا هدف، بعد أن يفر من ذخائره الفاسدة _التي هي لا غيرها_ ما أصابته في مقتل، وما تحويه حقائبه السوداء من صخور وأحجار بدلًا من دعمٍ وإمداد كانت سببًا للتعب والشقاء.

ذلك الموت البطيء لكل المعاني السامية التي عاش الإنسان يمجد بها ولها، كان المجد الحقيقي في القبول بعدم القدرة على استقطاب الآخر، القبول بأن رغبتنا في التملك ما هي إلا محض أنانية حتى وإن بدت مثالية، فعلى الرغم من التصديق بأنه تجري في النهر مياه كثيرة، لم يشفع هذا لفرصة وجود ضِفة أخرى بعيدة عنا يمكن أن يرسي عليها الآخر بسلام.

في خضم المعارك الأخلاقية المتواترة التي نخوضها وتدور حولنا الآن، أصبح لا غرابة أن تهجر الأعشاش الطيور، وتتركها بلا مأوى، وهكذا كانت الطريقة الوحيدة الممكنة للنضج هنا، هي محورة تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، ليُصنع بها عُشًا وديعًا، مُبعدًا عن كل هذه النزاعات، والتناقضات، وهذا ما لم يلق صداه.

حقيقة الرصيد الذي نحمله بداخلنا من إنصاف، تضعنا على مشارف الحقيقة، فالإنسان لا يشكو من حاجة مادية بقدر ما يشكو من شعوره بأنه مُغربٌ مُبعدٌ، بقدر ما يبغض المرآة التي تكشفه وتفضح حقيقته، وبقدر حاجته إلى مماثلة الآخر.


اقرأ أيضًا: صنائع المعروف: صوتك الذي لن يندثر


من أجل أن يضع المرء يده على ذاك النسيج الفاسد، كان عليه أن يمر بالكثير من الخسارات والمحاولات الفاشلة، لاستئصال أفكاره القادرة على التشعب والانتشار، وبتر بعضه للحفاظ على كله، في الواقع لا توجد أي رمزية في ما يدور وما أقول، بل وليس هناك أي عقلانية في أن يسير المرء في كل هذه المسارات بلا خرائط، ظنًا منه أنه لا يجهل مفاتيح الطريق، وما أن يكتشف عند الوصول، أن كل هذه المسارات لم تؤد إلى الوجهات الصحيحة، وأمام الأبواب الخاطئة ماذا نفعل بمفاتيح!

كما هو حال هبوط الدرج مقارنة بصعوده، يكون حَديثُنا عن الأخلاقيات وما حقًا نفعله منها أو نستطيعه. على مدار النوائب والسنون، ما رأيت مقياسًا تُختَبر به مروءة المرء بقدر ما يَكسر كبريائه، حين تتلطخ يده بدماء كرامته، عندما يتعرض للرفض والانحسار، في اللحظة التي يدرك فيها أن محاولات مده لم تؤتِ ثمارها وعليه أن يَكف. حينما يفشل في التَملك فيشرع بالانتقام، حينها فقط، يبدو على حقيقته، تتعرى أخلاقه ومعاييره البطولية، المعايير البشرية الناقصة التي نتحدث عنها كثيرًا ولا نلبث أمام الواقع، فنمزقها جميعها.

يقينًا بأن قدراتنا على المرور بتلك الاختبارات والنجاة منها لا تتساوى أبدًا، كان لا بد أن نعود إلى القاعدة التي ليس لها أي شواذ، وهي أن "كلنا بداية ونهاية، ما يجعلنا مختلفين حقًا هو بصمات خطواتنا في الطريق".