بنفسج

حول مائدة الإفطار: زوجات الأسرى يروين حكاية المقعد الفارغ

الأحد 26 مارس

بدأت الطقوس في بيتِنا، وها هو ماهر زين يصدح بصوته وقد ملأ الأرجاء والكلُّ يردد خلفه: يا .. نورَ الهلال، ونحن هنا قد جهَّزنا القائمة الطويلة، ففي أول يومٍ في رمضان سنذهب إلى مسجد "التقوى" ونصلي ثماني ركعاتٍ، ونكملها في البيت إلى عشرين ركعة، وفي اليوم الثاني سنرى المسجد الجديد الذي افتُتح في آخر الحارة،حيث يقولون إنَّ صوتَ الإمام يبعث على خشوع كبير. حسنًا وماذا عن قائمة الطعام؟! سألتْ رانيا وهي تخفي ابتسامةٍ خجولة، فيبدو أن هناك طلبات طويلة ستبدأ بعد قليل،  ضحكت أمها تهاني وهي ترفع حاجبيها: قائمة طعام يا رانيا إذن! الجود من الموجود في رمضان. جلستْ رانيا مستسلمةً لقرار والدتِها وهي تدرك في قرارة نفسها أن طلباتها في النهاية ستنفذ دون تأخير .

مقعد فارغ في بيت الأسير يوسف المبحوح

 

"ليس سهلًا عليَّ استقبال هذا الشهر دون زوجي يوسف". هكذا بدأت السيدة تهاني المبحوح سرد تفاصيل الحكاية أو "البوح بوجع الشوق"، فالطُّقوس التي كان يضفيها يوسف في شهر رمضان على البيت  كانت باعثة الفرح والابتهاج، فهذا الشهر هو ضيفٌ عزيز "علينا أن نحسن إكرامه" كما كان يقول دائمًا.

فآخر مرةٍ قضى فيها يوسف شهر رمضان مع زوجته وابنته رانيا (8 سنوات) وابنه طلعت (6 سنوات) كان حريصًا على جعله شهرًا مختلفًا عن أبقية شهور العام، بدءًا من الالتزام بسنة طعام السحور وصولًا إلى صلاة التراويح في المسجد، وكلُّ ما يليه من ابتهالاتٍ وأدعية مأثورة يقولها بصوتٍ عالٍ ليحفظها الصغار،و لتبقى أثرًا طيبًا بعد رحيله.

"حسنًا يا رانيا، طالما بدأتِ بقائمة الطعام، إذن عليكِ توضيب طاولة السفرة وتجهيزها بالشكل الذي تحبين". قالتها تهاني المبحوح (28 عامًا) وهي التي لا يمكن أن تكسر لحبيبتها وابنتها أي خاطر ،دخلتْ رانيا إلى غرفة السفرة تمسح الطاولة وتعد الكراسي، كرسيٌّ لماما، وواحد لأخي طلعت، وهذا الكرسي لي، وكرسي الصدارة لبابا يوسف ،في هذه اللحظة أدركتْ تهاني أن رانيا لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي تقف على أطراف أصابعها قبل ساعةِ الإفطار تنتظر حضور والدها وبيده "ضمة الجرجير وعلب المخللات والكثير من غزل البنات لعيون رانيا وطلعت". لقد كبرت مريم وأدركتْ جيدًا أن هذا المقعد الفارغ منذ أربعة أعوام تجلس عليه ذكرى والدها الأسير يوسف المبحوح، وتحيطه كلُّ الدعوات التي كانت تسبق دقائق آذان المغرب.

هذه السنة الخامسة التي تُبْصرُ فيها عائلة الأسير يوسف المبحوح هلال شهر رمضان دون وجود والدهم بينهم، ورغم أنَّ جراح هذا الغياب لا تندمل، إلَّا أن وجعه في شهر رمضان ومناسباتِ الأعياد يكبُر أكثر من أي وقتٍ آخر.

1-9.jpg

"ليس سهلًا عليَّ استقبال هذا الشهر دون زوجي يوسف". هكذا بدأت السيدة تهاني المبحوح سرد تفاصيل الحكاية أو "البوح بوجع الشوق"، فالطُّقوس التي كان يضفيها يوسف في شهر رمضان على البيت  كانت باعثة الفرح والابتهاج، فهذا الشهر هو ضيفٌ عزيز "علينا أن نحسن إكرامه" كما كان يقول دائمًا.

فآخر مرةٍ قضى فيها يوسف شهر رمضان مع زوجته وابنته رانيا (8 سنوات) وابنه طلعت (6 سنوات) كان حريصًا على جعله شهرًا مختلفًا عن أبقية شهور العام، بدءًا من الالتزام بسنة طعام السحور وصولًا إلى صلاة التراويح في المسجد، وكلُّ ما يليه من ابتهالاتٍ وأدعية مأثورة يقولها بصوتٍ عالٍ ليحفظها الصغار،و لتبقى أثرًا طيبًا بعد رحيله.

"في أول رمضان بعد أسر يوسف في السجون الإسرائيلية، كان الحزنُ يُطبِقُ على قلبي، وأنا أنظر إلى صغاري، فكيف لنا أن نجلس الآن على مائدةٍ واحدة وروحنا الرابعة بعيدةً عنَّا، لا أنكر أبدًا أنَّي بكيتُ كثيرًا شوقًا وحُزنًا وخوفًا أيضًا من قدرتي على التحمُّل، لكن كانت رحمةُ اللهِ أكبر من كل شيء".

مضى أول رمضان وكأنَّ أيامه جسرٌ لقلبِ تهاني ليوصلها إلى يوسف، فكان أول دعاءٍ علمته لأبنائها هو دعاء فكِّ أسر "بابا يوسف"، فأصبح هذا الدعاء وردًا تحفظه رانيا وتكرره على مسمع طلعتْ الصغير ليحفظه عن ظهر قلب. وكانت هذه البداية التي ساعدتْ تهاني للتحلي بالصبر والقوة، والاقتداء بكل الصفات الطيبة التي كانت يحرص يوسف على الالتزام بها خلال شهر رمضان.

2-9.jpg

رسخت تهاني مع أبنائها فكرة أن "بابا يوسف حاضر معنا دائمًا"، وأنه سيفرح لفرحهم ويحزن إذا ما وجدهم حزينين، ولذلك كان واجبًا على رانيا وطلعتْ أن يستيقظوا من أجل تناول السحور، وأن يواظبوا على الصلوات الخمس، ولا بد من جلسة التسبيح والاستغفار بعد كل صلاة والدعاء لوالدهم، ليس هذا فحسب، بل أصبح اختيار طعام الإفطار على "ما كان يحبه بابا يوسف"، فكان سؤالهم الذي لا ينفك عن لسانهم بعد تحضير كل طبق: بابا يوسف بيحب هذه الأكلة؟! وبمجرد أن تجيبهم أمهم بالتأكيد، حتَّى يتسابقون فيما بينهم لتحضير هذا الطبق وتزيينه.

وأمَّا عن لحظة الاجتماع حول المائدة وهم ينتظرون صوت آذان المغرب، فقد كانت هذه اللحظة تُلخِّص الشوق كله، فكما اعتاد يوسف على أن تكون هذه دقائق روحانية وهادئة، أخذ الأولاد هذه العادة على أنَّها "هيك كان بابا بيعمل" فيلتفون حول مائدةٍ رباعية، بثلاثة أشخاص وأربعة قلوب، يرفعون أيديهم إلى السماء وبخشوع الصائم يرددون: اللهم كما أذهبتَ ظمأَ ألسنتِنا، أذهبْ ظمأَ شوقنا لبابا يوسف ،كانت الطمأنينة هي سيدة المائدة، ورسائل الحب هي زادُ الشوق الطويل.


اقرأ أيضًا: تهاني العويوي : الأسر ليس غصة قابلة للاعتياد


هكذا كانت السنوات الأولى التي هلَّ فيها شهر رمضان، لكن هذا العام اختلفتْ الكثير من الطقوس في داخل تهاني، فهذا العام الثاني على التوالي الذي سيقضي فيه يوسف شهر رمضان في العزل الانفرادي، وهذا يعني أنَّه لن يستطيعَ الحديث مع عائلته ومُعايدتهم كما كان يفعل في السنوات الأولى. والحقيقةُ في هذا أّنَّ البُعد قد زاد، فكانت المحادثات والقُبلات البعيدة التي يرسلها الأطفال، تصل لقلب والدهم رغم القيود، لكن هذه المرة عليهم أن يقولوا لوالدهم: كل سنة وأنت بخير يا بابا، عبر صورته المُعلقة فوق طاولة السفرة، وأمَّا عن قُبلات الشوق فلا بريدَ يستطيع حملها.

ماهر وبهية

3-6.jpg

لا تختلف الطقوس كثيرًا بين عائلة أسير وأٌخرى، فالفقد واحد، ووجع الشوق عند كلِّ مائدة حاضرٌ جبرًا، شئنا أم أبينا، لكن الأمر المختلف هو "طاقة التحمل وتسيير عجلة الأيام كما ينبغي"، وهذا لا يعني أبدًا الاعتياد والتسليم التام لعدم وجود الأب أو الزوج بهيبته وروحه على المائدة، إنَّما يرتبط بإحياءِ حضوره بكلِّ الأشياء التي كان يحبها في هذا الشهر، وهذا ما انطلقت به السيدة بهية النتشة زوجة الأسير ماهر الهشلمون، فالأعوام الثمانية من شوق الحضور لماهر على مائدة الإفطار لم تتغير أبدًا، ففي كل مرة تجلسُ فيها بهية برفقة أبنائها مريم وعبادة حول طاولة السفرة تذكر لهم شيئًا من صفات والدهم، حتَّى أصبحوا يشعرون أنَّه يرافقهم ويراهم وهم يضحكون على مواقف والدهم وهو ينتقي قائمة الطعام الرمضانية بنفسٍ طيبة.

تستذكر بهية أول رمضان دون وجود ماهر، فكان شوقُها أقوى من أن تُعلِّق زينة رمضان على الجدران، أو تخرج للتسوق وتنتقي كلَّ ما يلزم من بهجة هذا الشهر الكريم، فقد كان قلبُها عند ماهر، تراه يجلس معهم يُلقي النِّكات ويختبر صيام الأطفال بقرص أصابعهم أو مدى بياض ألسنتهم. كلُّ شيءٍ كان ساكنًا دون وجود ماهر، لكنَّ بركة الدعاء الذي استندتْ عليه بهية دفعها لاكتساب قوةٍ ولكن بثمنٍ غالٍ.


اقرأ أيضًابيسان وصفي قبها: زهرة "نصير الأسرى" وغرسه


فتحوَّل غياب ماهر الجسدي إلى حضورٍ روحي، "فلو كان ماهر حاضرًا بيننا لرفض هذا الحزن أيضًا"، انطلقت بهية بقوتها وصبرها لِتُعلن فرحة هذا الشهر، لتصبح شعائره وأنفاسه وأفعاله صدقة لأجل الإفراج عن ماهر ، فكانت الأيام التي تسبق الشهر الكريم بمثابةِ طقوس فرحٍ من التجهيز والتحضير، بدءًا الفوانيس والإضاءات الجميلة، وصولًا إلى صلة الرحم ، فكلُّ ما كان يحبُّ ماهر فعله في شهر رمضان حاضرًا بروحه في داخل البيت.

"ليس سهلًا أبدًا لكنّها محاولات انتزاع الحياة"، هذا ما تراه بهية عنوانًا لدفء بيتها في شهر رمضان، فكلُّ هذه الطقوس والأجواء المُبهجة كفيلة أن تجعل مريم وعُبادة يُحلِّقون بالحرية الكبيرة التي حُرِمَ منها والدهم.

نورا ومحمد أبو وردة

IMG-20230323-WA0001.jpg
تحضيرات رمضان في بيت الأسير محمد أبو وردة

لم تختلف قصة نورا الجعبري زوجة الأسير محمد أبو وردة المحكوم أيضًا بـ 48 مؤبدًا، فشهر رمضان بمنزلة ملاذٍ كبير للدعاء والبوح بالأسرار، فمنذ أول مرةٍ حلَّ الشهر الفضيل بعد اعتقال محمد، أدركتْ نورا أنَّ الأمر لن يكون عاديًا، لكن كانتْ عزيمة نورا كفيلةً بأن ترفع همَّتها وتنسج فرحة هذا الشهر مع ابنها الوحيد حمزة، وهذا ما سارتْ عليه مع كلِّ بدايةٍ لرمضان، حتَّى أصبحتْ كلُّ العادات والطقوس التي كان يحبُّها محمد موسومةً بصفات ابنه حمزة.

 

5-3.jpg

"لقد مضى ما يُقارب 22 رمضانًا دون وجود محمد بيننا، وفي كلِّ عام أحدِّثُ قلبي لعله يكون آخر رمضان بوحشة هذا الغياب، فلا ننكر شوقَنا لحضور محمد بيننا، ولا أخفي أيضًا أُمنيتي بأن يشهد حمزة مع والدِه أجواء هذا الشهر الكريم". حدثتني نورا وهي تعدُّ كل الصفات التي زرعتْها في داخل ابنها، ليشعر دائمًا أن غياب والده هو حضورٌ أكبر، فعلَّمته جيدًا كل عبادةٍ كان يحبُّ والده أنْ يضاعف تأديتها في رمضان، فلا عذرَ لقطع صلة الرحم في رمضان، أو إضاعةِ صلاةِ التراويح، أو حتَّى لا مجالَ لتفويت بركة الدقائق الأخيرة المُلازِمة لفرح الصائم بفطره.

4-5.jpg

كيف تستطيعين إحياء وجود محمد رغم كل السنوات التي انقضى فيها رمضان دون وجوده؟! سألتُ نورا وأنا أراها بصبرٍ واحتسابٍ كبيرين، لتجيبني: "ذكرى محمد لم تغبْ أبدًا، هو معي من اللحظة الأولى التي اقترن اسمي باسمه، نذكره جميعًا كلما حضرنا في جلسةٍ أو جمعةٍ من الجمعات الرمضانية برفقة العائلة والأحباب، ليكسب محمد بهذا خيرَ الدعاءِ قبل الإفطار، وفي السجود وعند صلاة التراويح بأن يكتبَ اللهُ له الحرية القريبة، وأن يقضي برفقتنا كل رمضانٍ قادم".


اقرأ أيضًا: أم البراء القاضي: استدامة عطاء الأم الفلسطينية


مقعدٌ واحد، كُتِبَ له أن يكون فارغًا حول المائدة، لكنَّ الروح التي تجوبُ بكلِّ الذكريات الطيبة التي كانت تُصنَع في أيام الشهر الفضيل، جعلته مقعدًا فيه الحضور الأكبر، والبهجة الأحلى، وكأنَّ هذا الوجود فيه الأمل أن تعود هذه الذكريات حقيقةً ملموسة، بصوتِ كلِّ أسيرٍ غاب عن مراسمِ الاحتفال بأول صيامٍ أتمّه ابنه الصغير، أو أول طبق سلطة أتقنت ابنته الوحيدة صنعه.