بنفسج

إني أتاجر في النوايا.. وربحي غزير لو تعلمون

الخميس 21 ابريل

لكلّ بناء أعمدة تشدّه، وأساس يقوم عليه ويرتكز على أركانه، فيرتبط الوجود تبعًا لذلك بمدى قوة هذا الأساس ومدى صلابته؛ فأمّا إن كان صلبًا متينًا، فإنّ البناء يظلّ شامخًا شاهقًا، لا تحرّكه البلايا. وأمّا إن كان هشًّا، سريع الانهيار فإنّه ينقضّ معه ولا يبق منه شيئًا، كأن لم يكن.  وكذلك هي النية: عمود العمل وركيزته، لا يصحّ إقبال ولا إدبار من دونها، ولا تقدّم عبادة ولا تؤخر شيئًا من غير وجودها. وكما لا تدبّ في الجسم حياة من دون روح، فلا يحوز العمل على جوهر، ولا معنى ولا قبول من دون نية. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى؛ فإنّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها يبنى عليها، يصحّ بصحتها ويفسد بفسادها". ]1[

ومن رحمة الله تعالى بعباده أنّه أجزل عليهم فيوضات العطاء وسخّر لهم كل أسباب نيل الثواب؛ فالنية التي يستحضرها المسلم متمّمة الأجر ولو لم يتبعها عمل، وهي ترقى بالعادة لتمسي عبادة، وتصبح الأنفاس تسابيح، ويصير الوجود كلّه محمَّلًّا بالعطاء والأجر إذا لازمه قصد القلب، واستحضار النية. أثر عن ابن المبارك أنّه كان يقول: "ربّ عمل صغير تعظمه نية، وربّ عمل كبير تحقّره نية". فالنية تتدرّج بالعمل من التسفّل إلى الترفّع، وترتقي به إلى آفاق السّماء، ومحطّات القبول ومدارج الوصول.  وكما أنعم الله علينا بفضل هذه النية وعطائها، فقد تودّد إلينا سبحانه بشهرٍ من خيرة الشهور وأفضلها: يجاب فيه الدّاعي، ويعطى فيه السّائل، ويلبّى فيه المستغيث، وينادى فيه الصائمون إلى ضيافة الله وكرمه، وعطاياه.

على غرار كون نية الفاتح من رمضان هي أساس الصوم، ورأس العمل، إلّا أنّها كذلك إشارةٌ لولوج محراب الصّائمين والتخلّي عن كلّ ما دون ذلك، كأنّما يقال "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"، واستجمع نيتك إنّك في الشهر المعظّم الذي رَغِم أنفُ من لم يغفر له فيه.

 فماذا إن اجتمع بذلك عظم النية بعظم الشهر، كيف سيكون الربح يا ترى؟  استقبال الضيف العزيز لا يقتصر على فعل الترحيب في مطلع الشهر، عندما تعلّق الزينة، ويُتحرّى الهلال، ويعلن عن أولى أيامه المباركة؛ بل تهيّأ له السّبل وتستعدّ له الأنفس قبل ذلك بمدّة طويلة. وكان الصحابة، رضوان الله عليهم، يدعون الله ستة أشهر كاملة أن يبلغهم رمضان، ثمّ يدعون بعده ستة أشهر أن يتقبل منهم العمل المأثور: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان"؛ فمحطات البلوغ إلى رمضان لا بدّ وأن تكون مسبوقة باستعداد نفسي، وتدريب روحانيّ في الشهرين اللذين يسبقانه، حتّى إذا أتى الغيث وجد التربة خصبة ممهّدة للجني الوفير. 

ومن سبل التهيّؤ عقد النية الجامعة؛ نية صوم الشهر كاملًا إيمانًا واحتسابا قبل فجر اليوم الأول من رمضان على قول معظم العلماء: "النية الواحدة مع أول الشهر كافيةٌ لصيام الشهرِ كله"، أو تجديدها يوميًّا في كل ليلة على قول البعض الآخر. 
واستحضار هذا القصد في مطلع الشهر بعد رؤية الهلال، أو استكمال عدّة شعبان هو ممّا يغيب على الكثيرين، فيغفلون عنه، رغم أهميّته البالغة؛ فعلى غرار كون نية الفاتح من رمضان هي أساس الصوم، ورأس العمل، إلّا أنّها كذلك إشارةٌ لولوج محراب الصّائمين والتخلّي عن كلّ ما دون ذلك، كأنّما يقال "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"، واستجمع نيتك إنّك في الشهر المعظّم الذي رَغِم أنفُ من لم يغفر له فيه. 

يا لله! أيّ ربح وفير في شهر عظيمٍ من ربّ ودودٍ كريمٍ أكثر من هذا؟ يصلك الثواب إلى ميزان حسناتك لأنّك نويت أن يكون أكلك وشرابك ولباسك وعملك، وحتى نومك، خالصًا لله وحده، هكذا بكلّ هذه البساطة، هكذا بكلّ هذا الفضل، ولذلك ورد عن أحد السلف أنّه كان يقول: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتّى الطعامُ والشراب". 

ثمّ لا بدّ وأن تكلّل جميع الأعمال الأخرى خلال الشهر بقصد القلب، ولا بدّ أن تسبق بنية الفعل: الصلواتُ المفروضة، والنوافل، والرواتب، والصّدقات، والأوتار، والتراويح، وغير ذلك من عبادات يجتهد فيها المسلمُ، ويلزمه خلالها التعب، وتصيبه مشقّة. فأيّ حسرة إن كان كلّ هذا الاجتهاد في عملٍ لا أساس له، ولا نية؟ ومن عظيم اللطف الذي حبانا به سبحانه، أنّ النية إذا استحضرت خلال العادات، ارتقت بهذه الأخيرة إلى مرتبة العبادات ويجازى المرء عليها، وينالُ أجرَا.

يا الله! أيّ ربح وفير في شهر عظيمٍ من ربّ ودودٍ كريمٍ أكثر من هذا؟ يصلك الثواب إلى ميزان حسناتك لأنّك نويت أن يكون أكلك وشرابك ولباسك وعملك، وحتى نومك، خالصًا لله وحده، هكذا بكلّ هذه البساطة، هكذا بكلّ هذا الفضل، ولذلك ورد عن أحد السلف أنّه كان يقول: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتّى الطعامُ والشراب".  والحديث هنا بشكل أخصّ عن الأمهات الطيّبات، والأخوات والزوجات اللواتي يبذلن جهدًا مضاعفًا خلال رمضان، ويقفن ساعات طويلة، يحضّرن الفطور ويجبرن الخواطر، وينشرن البهجة، ويجمعن شمل العائلة؛ فكلّ هذا العطاء والبذل العظيم لن يضيع إذا سبق بنية إفطار الصائم، وإدخال الفرح على قلوب المسلمين.  يقول عليه الصلاة والسلام: "في كل ذات كبدٍ رطبة أجر"]2[ 


اقرأ أيضًا: رمضان الصيام: كيف يكون هذا الزمان مبـــاركًا؟


والحديث كذلك عن اللواتي تتكبّدن عناء العمل خارج المنزل، ثمّ تعدن إليه من أجل محطّة أخرى من التعب، واللّواتي يحملن أطفالهنّ بيدٍ، ويسكبن الحساء للصائمين بيدٍ أخرى، واللّواتي لا يسعفهنّ بكاء الرضّع أن يلحقن ركب المصلّين في المساجد صلاة التراويح، فيلزمن منازلهنّ بترقّب وحسرة، واللواتي لا عون لهنّ ولا سند، يتحمّلن وحدهنّ عناء إعداد الفطور، وتقديمه، وتنظيف ما بعده: إليكنّ جميعًا، الرّبح غزير، والله لا يضيع عنده أحد، والنية تبلغكنّ مقامًا لا تبلغكنّ إياه الأعمال وحدها، فاحرصن على استحضارها في كلّ الأحوال: في الأكل والشرب، وتنظيف المنزل، وتربية الأولاد، وعمل الدنيا وعمل الآخرة. قال داوود الطائيّ: "رأيتُ الخير كلّه إنما يجمعه حسن النية، وكفى بها خيرًا ولو لم تصب". أي كفى بأجرها الوافر، ولو لم تُلحق بعمل.

 كل ثانية في رمضان هي في غاية الأهمية، كلّ لحظة تستلزم منك تدبّرًا وحضورًا، كلّ دقيقة غنيمة، كلّ ساعةٍ تتهيّأ لدعاء يهدأ به فؤادك، ويسكن. كلّ يومٍ ينتظر منك أن ترجع إلى الله، وتطرق بابه، كلّ ثلث فيه رحمة، ثمّ مغفرة، ثمّ عتق من النار. 

لا وقت لديك لتضيّعه، ولا مجال لسفاسف الأمور: رمضان سوقٌ قام ثمّ انفضّ، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر. رمضان مزرعة الأعمال، ومرفأ النيات: لا تجعل كدر الدّنيا ينسيك عظم النية، تحرّر من هواك، ومن طين الأرض، ترفّع إلى ملكوت السّماء، تتّبع لطائف الله بك وهمساته إليك "سدّوا برمضان الفرج!  قد أقبل غيث الله، فاقلب رداءك وغير حال قلبك، وارفع يديك فارغتين، وقل يا للأسى إن لم تمدّ لي يا رب يدا". ]3[

ولا تشتّتك الكثرة عن الديمومة، ولا النافلة عن الفريضة، ولا الكمّ عن الكيف، وتذكّر بأن قليل دائم خيرًا من كثيرٍ منقطع، وأنّ صلاح القلب والعمل بصلاح النية والقصد؛ فراقب قلبك قبل قالبك، وسر إلى الله ولو أعرجًا، ودع نوره سبحانه يتسلل إلى فؤادك فـ: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدًا". ]4[


| المراجع

]1[ إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن القيم الجوزية   
]2[ متفق عليه 
]3[ د. كفاح أبو هنود 
]4[ رواه الطبراني