بنفسج

رمضان الصيام: كيف يكون هذا الزمان مبـــاركًا؟

الثلاثاء 05 ابريل

شيءٌ ما في هذا الشهر الفضيل لا يمكن وصفه بسهولة. شيء ما عميق جدًّا، راسخٌ جدًّا، ساكنٌ، ثائرٌ يقول للملأ: امسحوا عن قلوبكم غبار ما قد فات، هُنَا ولادة مباركة. يقول لهم كما قال "أحمد خيري العمري": "في قلبك قفل، وعلى القفل متراس ومزلاج، وعليه أيضًا بيت عنكبوت، وعش حمامة. لم يقترب من القفل أحد! مدّ يدك نحو القفل وافتحه، افتح لرمضان قلبك".

هذا القلب المهجور المليء بالوحشة، المحتاج إلى السكينة، دع رمضان يطهّره من الدنس، دع رمضان ينقّيه؛ فنحن يوميًا في سير متعب مثخن بالجراح، مثقل بالصعاب، نتأرجح بين الشك واليقين، وخيبات الأمل، وظلام الأهواء.  ومع كلّ خطوة نخطوها، هناك في الرّوح سلالم صعود وسلالم هبوط: نتأرجح بين هذا وذاك فلا ندري إلى أيّ منتهى يكون مآلنا، وتطغى انشغالات الدنيا وعجلتها، وأعمالها فتشتّتنا عن تزكية الأنفس وتزكية الأرواح، إلى أن يطلّ علينا رمضان: سيد الشهور وخيرها، فيأذن بميلادٍ جديد، وأفقٍ جديد.

| أماني رمضان

كم من الأماني نحمل في جعبتنا، منتظرين مقدم الشهر لنبثها في محطات السجود، ونتلوها بين ثنايا الدعاء: تتهاطل كالسّيل محمّلةً بيقين الإجابة، مرفقة بدموع الرجاء. أثر عن أحد السلف أنّه كان يقول: "إني لأسأل الله في صلاتي حتى ملح عجيني". إننا من فرط الغفلة، ومشتتات الحياة نلهو في سائر الأيام عن جزئية الدعاء في كلّ صغيرة وكبيرة، معتقدين بأنّ اللجوء إلى الله مقتصر على النوائب والبلايا.
 
لكلّ منّا قائمة طويلة من الأماني تبدأ بملح العجين، وتنتهي عند "ربّ لا تذرني فردَا" أو لعلها لا تنتهي أبدًا، المهم أنها تشتمل على أبسط المطالب وأكثرها تعقيدًا، وتطرق كلها باب الله راغبة في فضله، ملتمسة لودّه، يأتيها الصوت دافئًا، جابرًا، ليهمس بهدوء: "فإنّي قريب".
 

رمضان ثورة الثلاثين يومًا، وانبعاثُ الميت من رحم الحياة، وفرصة التغيّر، وملاذ الآمال. يأتي ليتلو على الملأ ترانيم الحرية، ومعاني الثبات، ويقرّر بأنهم ليسوا أسرى لشهواتهم، وملذاتهم، وأنّ بإمكانهم التحكّم في الهوى ورفض الانصياع له، وأنّ الأكل والشرب والجماع مجرد إشباع لحاجات فيزيولوجية في المرء، وليست أساسًا يقوم عليه كيان الإنسان، ووجوده، فيجعله سيّد رغباته لا عبدا لها، وينقله بذلك من دائرة الحيوانية إلى دائرة الإنسانية الحقّة، كأنّما يقول: خذ كل ما صفا ودع عنك ما كدر، ترفّع، تمسّك بهواك، تحرّر، تحكّم في رغائبك!

رمضان كذلك، مطية الآمال، ومُعتصم الأحلام. كم من الأماني نحمل في جعبتنا، منتظرين مقدم الشهر لنبثها في محطات السجود، ونتلوها بين ثنايا الدعاء: تتهاطل كالسّيل محمّلةً بيقين الإجابة، مرفقة بدموع الرجاء. أثر عن أحد السلف أنّه كان يقول: "إني لأسأل الله في صلاتي حتى ملح عجيني". إننا من فرط الغفلة، ومشتتات الحياة نلهو في سائر الأيام عن جزئية الدعاء في كلّ صغيرة وكبيرة، معتقدين بأنّ اللجوء إلى الله مقتصر على النوائب والبلايا.

لكن، في رمضان، يخيم الهدوء على الأنفس جميعًا. لكلّ منّا قائمة طويلة من الأماني تبدأ بملح العجين، وتنتهي عند "ربّ لا تذرني فردَا" أو لعلها لا تنتهي أبدًا، المهم أنها تشتمل على أبسط المطالب وأكثرها تعقيدًا، وتطرق كلها باب الله راغبة في فضله، ملتمسة لودّه، يأتيها الصوت دافئًا، جابرًا، ليهمس بهدوء: "فإنّي قريب". وهي فوق كل هذا سرّية للغاية، لا شأن للملء بها، يكفيها أن الله مدركها، فلا شيء سوى أصوات الأنين الخافت في سجدات التراويح، ولحظات النهار، وقبيل الإفطار. بداخل كلّ منا حكاية طويلة، حكاية محمّلة بتفاصيل الشقاء، ومعارج الحياة، وبقايا الحلم، وبقايا الأمل؛ وفي كل رمضان، تتجدّ محاولاتنا لإعادة ترتيب فصول هذه الحكاية، وإعادة سرد أحداثها، ببركة الدعاء في هذا الشهر، وبركة أنواره المقدّسة.

| ماذا يعلمنا الصيام؟

رمضان
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه".

يعلمنا الصيام، بطريقة أو بأخرى، أن لذة العيش قد تكمن أحيانا في شيء من الحرمان، وقد تتخفّى بين طيّات العذاب. ولو لم تكن هذه سنّة من سنن الحياة، لضاع المغزى الحقيقيّ منها ومن وجودها؛ فالمبذول مملول في كل الحالات، مهما حاولنا الاقتناع بالصورة المثالية لدنيا صافية من الأكدار، لا تشوبها شائبة. كما أنّ في المنع تأديبٌ للنفس البشرية، وتهيئة لها، وتدريب على الاستعداد لكلّ المواقف التي تفصل بين من صدق، ومن نافق.

عندما انقلبت الموازين في غزوة أحد، وانهزم المسلمون بعد أن كانوا على شفا حفرة من الانتصار، أنزل الله تعالى في كتابه في سورة آل عمران آية عظيمة تبرز ما يشمله هذا الانهزام من دروس نفسية، وتأديبية، فقال: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)". فقد أتى هذا المنع إذن ليبيّن أنّ الطريق إلى الجنّة محفوفة بالمكاره، لا بدّ فيها من صبر، وجهاد، وعزيمة، وصدق، وكذلك يفعل الصوم.

الصيام يكسب الفرحة معنى، يكسبها استحقاقًا. اسمعوا سيدي رسول الله وهو يقول: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه". أيّ لذة في هذا الفطر يا ترى، وأيّ استثناء؟ أليس المرء يأكل طعامه ويشرب شرابه ويأتي حاجته في كل الأيام؟ فما الذي يجعل لأكل الفطر فرحة خاصة وبهجة لا توجد في الأوقات العادية؟


اقرأ أيضًا: رمضان.. بوابة الوصول


الأمر يشبه وصال حبيبين منعتهما الظروف من رؤية بعضيهما لمدة طويلة، ثمّ التقيا أخيرًا، فلا يمكن لذلك اللقاء أن يكون كلقاء من لم يتفرقا أبدًا. الأمر يُعلّم المسلم كذلك أنّ كلّ إعراض عن معصية، ستعقبها في نهاية المطاف فرحة لا يمكن وصفها؛ فلا مجال للمقارنة مثلاً بين من تسرّع في كسب ماله عن طريق الحرام، وبين من تريّث وذاق المرارة وصبر على الكسب حتى ظفر بالرزق الحلال، أو بين من قرّر أن يأتي شهوته من خلال الزنا، وبين من عفّ نفسه إلى حين مقدم زوجه.

في هذه الفرحة نوع من الفخر بالصّدق، والوضوح، وعدم النفاق؛ إذ من الممكن للمرء أن يفطر في سرّه، ثمّ يدّعي الصوم أمام العلن، هل كان سيمنعه أحد؟ الصّوم يكسب الإنسان رقابة ذاتية، ويعلمه معنى أن يكون العمل خالصًا لله، في السرّ والعلن؛ فيصلح في نفسه ما أتلفته غياهب الرياء، والسمعة، وما يعتقده الآخرون. وفي هذا يقول ابن القيم الجوزية: "وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطّلع عليه أحد: وهو حقيقة الصيام".

| معنى الزهد

 
يقطع المسلم خلال رمضان داخل نفسه رحلةً قد تمتدّ لآلاف الأميال، وقد لا تنتهي؛ ولأنّ سبيل الرحلات غير مأمون العواقب، ولا المحامد؛ فإنّ المحطات التي سيتوقف عندها كثيرة، مليئة بالتناقض، مشبعة بالضبابية، لكنّه سيفهم شيئًا جديدًا عن نفسه عند كلّ محطّة، ليصل إلى أعمق نقطة فيها، وتتكّشف له حجبها، وظلماتها، والدهاليز التي تحويها، فيختبر من خلالها في كلّ دعوة في وضح النهار.
 
ويسلّم بحقيقة ضعفه أمام الله عزوجلّ، ويدرك بأنّ الكمال وهمٌ يتعارض مع الفطرة الإنسانية، لأنّ "كلّ ابن ادم خطّاء" وبأنّ الإنسان من دون مولى، تائه، شارد، لا ملاذ له ولا مأوى. يقول علي شلق: "ومثلما يكون الصّوم موقفًا، يكون رحلة في أقاليم جديدة، تنكشف بها للنفس حجب، وعوالم، وتجلي مرايا، وتشفّ أبعاد".

يقطع المسلم خلال رمضان داخل نفسه رحلةً قد تمتدّ لآلاف الأميال، وقد لا تنتهي؛ ولأنّ سبيل الرحلات غير مأمون العواقب، ولا المحامد؛ فإنّ المحطات التي سيتوقف عندها كثيرة، مليئة بالتناقض، مشبعة بالضبابية، لكنّه سيفهم شيئًا جديدًا عن نفسه عند كلّ محطّة، ليصل إلى أعمق نقطة فيها، وتتكّشف له حجبها، وظلماتها، والدهاليز التي تحويها، فيختبر من خلالها في كلّ دعوة في وضح النهار، أو كل ركعة في جوف الليل، أو كلّ جلسة بعد صلاة التراويح، مدى صبره، وتحكّمه في نفسه، ومدى شفافيته، ويسلّم بحقيقة ضعفه أمام الله عزوجلّ، ويدرك بأنّ الكمال وهمٌ يتعارض مع الفطرة الإنسانية، لأنّ "كلّ ابن ادم خطّاء" وبأنّ الإنسان من دون مولى، تائه، شارد، لا ملاذ له ولا مأوى. يقول علي شلق: "ومثلما يكون الصّوم موقفًا، يكون رحلة في أقاليم جديدة، تنكشف بها للنفس حجب، وعوالم، وتجلي مرايا، وتشفّ أبعاد".

ومن بين محطّات هذه الرحلة: محطّة التخلّي، التي يقف الإنسان عندها فيدرك بأنّ الاستغناء عن بعض الأشياء والزهد فيها، من سبل السّير إلى الله، وأن التخلّي شجاعة، ونضجٌ، واستئناس بالله تعالى عن غيره. ويعلم أنّ البشر لن يغنوه شيئًا، ولن يضرّوه شيئًا إلا بإذن الله؛ هو المعطي والمانع، والمدبّر، والمقدّر فيلجأ إليه وحده دون سواه، ويحقّق المقصد الأسمى من الصيام وهو غنى النفس: أي أن تكون جنة المرء وبستانه في نفسه وعلاقته بالله تعالى، لا شأن له بالآخرين، إن هم أتعبوه، أو هم ظلموه. وقد فطن شيخ الإسلام ابن تيمية إلى كلّ ذلك فقال: "أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي لا تفارقني: إنّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".

ومن المحطات كذلك، محطة الأخلاق والقيم العالية، التي يعلمنا إيّاها الصيام، ويدربنا على التزامها. فالانقطاع عن الأكل والشرب لا بدّ وأن يكون متبوعًا بالانقطاع عن الهمم الدنيّة، والأخلاق السيّئة؛ لأنّ الصّوم إذا خلا من الولوج إلى رحاب الشمائل الطيبة، كان صومًا قاصرًا، مفرغًا من محتواه، و"ربّ صائم ليس له من صومه إلّا الأكل والشرب"، ولعلّ ذلك جوهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: "إذا أصبَحَ أحدُكم يومًا صائمًا، فلا يرفُثْ ولا يَجهَلْ، فإنِ امرؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَه، فلْيَقُل: إنِّي صائِمٌ، إنِّي صائِمٌ".

هو ذا سيدنا رمضان، المتفضّل على أنفسنا وقلوبنا وآمالنا، الذي سخّره الله في كلّ عام ليكون بشائر لا تنقطع، ورحمة لا تنفذ. كلّ عام ورمضانُ صاحب الخير أينما حلّ. كلّ عام وأنتم بخير.