بنفسج

قصتي.. عبدالرحمن عصيدة

الثلاثاء 16 مايو

"ماما بدي مصروفي" كنت استغربت من طلب طفلي عبد الرحمن يوم الجمعة قبل الذهاب للصلاة، وإصراره على أخذ مصروفه وهو خارج لصلاة الجمعة، ليكتشف والداه بعد ذلك بأنه يضع المصروف في صندوق الصدقات، يا له من فخر أن يكون طفلي حنونًا تقيًا لهذا الحد، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يستمر عبد الرحمن في وضع المصروف في الصندوق، ولم أعد أسمع صوته يرتل القرآن، شاء الله أن يغادر الدنيا للواحد الأحد في عمر الثالثة عشر بشكل فجائي.

"ماما بدي مصروفي" كنت استغربت من طلب طفلي عبد الرحمن يوم الجمعة قبل الذهاب للصلاة، وإصراره على أخذ مصروفه وهو خارج لصلاة الجمعة، ليكتشف والداه بعد ذلك بأنه يضع المصروف في صندوق الصدقات، يا له من فخر أن يكون طفلي حنونًا تقيًا لهذا الحد، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يستمر عبد الرحمن في وضع المصروف في الصندوق، ولم أعد أسمع صوته يرتل القرآن، شاء الله أن يغادر الدنيا للواحد الأحد في عمر الثالثة عشر بشكل فجائي.

هناك على الدرجات في نهاية المشفى بالقرب من ثلاجة الموتى وضعت رأسي المثقل على الحائط المجاور وأرخيت يداي التي أنهكها التوتر والخوف ومر من أمام عيناي شريط ذكريات طويل لرحلتي مع ابني عبد الرحمن، لينتهي بآخر دعاء لي له وهو في العناية المركزة حين دعوت أن يشفيه الله شفاء يليق به "أجل يا بني لقد أختار الله لك الجنة، تليق بك جدًا".

ٱنا هناء ريحان والدة الطفل عبد الرحمن الذي فارق الحياة إثر حادث سير مروع مكث على إثره في العناية المركزة لعشرة أيام. كنت مسافرة مع والده وأشقائه إلى تركيا، وتركت عبد الرحمن مع شقيقه في الوطن، لم أتخيل أن أرى مكروهًا فيهم حينما أعود، كانت الصدمة قاسية عليَّ.

ألا يقولون الأم تشعر بأطفالها إن حدث لهم مكروهًا، هذا حقيقي جدًا، في اليوم الثالث للرحلة شعرت بنغزة في قلبي وظللت أتحدث مع عبد الرحمن طوال النهار، ثم تركني بعد العصر، ليجيب أخاه الكبير بأنه قطف التين من حديقة المنزل وباعه ثم نام، لم يخبرني بحادث السير الذي تعرض له، ليقول لي زوجي في المساء عن الحادث. وقتها شعرت بقلبي سيخرج من مكانه، أمسكت الهاتف لأحادث كل العائلة، والجيران، ولا أحد يخبرني بالحقيقة، حتى رميت الهاتف بعيدًا عني لأستوعب ما الذي يجري.

وصلت البلاد بعد رحلة طريق طويلة للغاية، لأصل المشفى، لأجد ابني في العناية المركزة، حيث تعرض لكسور شديدة في الجمجمة. كنت أجلس على طرف السرير في غرفة العناية أود لو احتضنه لصدري كما كنت أفعل من قبل، أود ان العب بشعره، لكن وضعه لم يكن يسمح حتى توفاه الله في اليوم العاشر من مكوثه في العناية، فضممته إلى صدري دون خوف، تحسست شعره وقبلت يديه، ولكني اشتقت أن أسمع أنفاسه أيضًا، ولكن سريعًا تمتمت بالحمد، فهذا اختيار الله.

لأحدثكم عن ابني الخلوق، حين كان في الروضة، لا يتوقف هاتفي عن الرنين في نهاية كل دوام، وكما أتوقع شكوى من عبود ولكن في نهاية المكالمة يبدأ المدح بأنه قوي الشخصية ذكي وسريع البديهة، حتى أن بعض الأمهات كانوا يسألونني "ما نوع الدواء الذي تعطيه له ليكون بهذه الصفات الحسنة؟".

وحين كنت أطلب المساعدة منه كان يتبرم أحيانًا، وبالرغم من ذلك كان أكثر من يساعدني وينجز ما أعطيه إياه بسرعة. التميز الذي حصده عبد الرحمن كان شاقًا عليَّ، حيث بذلت جهدًا في التربية وتقويم السلوك، لأحصد نتاج ما فعلته، فكان كل من يعرفه يقول: "ابنك ما شاء الله غير عن كل الأولاد".

كان يشاكسني أحيانًا، يرفض القراءة في الصف الأول، وكانت معلمته تجري له الامتحان بصورة شفهية، وكلما أقول له لنتعلم القراءة يتحجج بأنه لا يحتاج لها، حتى توصلت معه لحل وسط بأن نخصص عشر دقائق يوميًا لتعلم القراءة، فوافق، فما أنهى الصف الأول حتى أتقن القراءة بفضل الدقائق القليلة.

"٨ أسطر أسبوعيًا لن أحفظ أكثر من ذلك"، هكذا بدأ عبد الرحمن رحلته مع القرآن بعدما ضغطنا عليه للسير بطرق حفظ القرآن، ليقرر بين ليلة وضحاها أن يلتحق بمسابقة يجريها مسجد آخر في القرية لحفظ سورة البقرة في ٥ شهور، تقول والدته: "ضحكت في البداية من رغبته، فقد حفظ جزء عم في عام، ولكن اندهشنا أنه أنهى حفظ السورة في شهرين. وكان يحتاج دقيقة واحدة فقط ليحفظ صفحة كل يوم وفي ذات الوقت لم يهمل حفظة المعتاد".

حفظ القرآن في بضع سنين عن ظهر قلب، وكان يأخذ السند لدى شيخه في المسجد الذي رفض في البداية أن يعطيه دروسًا في السند لصغر سنة، ولكن إصرار عبد الرحمن أوصله لتكون ملاحظات الشيخ لوالديه "أنا لا أصحح الغلط مرتين لابنكم ما شاء الله".

كان عبد الرحمن منبه والده لصلاة الفجر فسهر والده في العمل كان لا يسمح له احيانًا أن يصلي الفجر في المسجد فيظل عبد الرحمن الذي يريد الذهاب للمسجد بعد أن منعته أمه من الذهاب وحيدًا لصغر سنه، فيظل فوق راس والده دون كلل حتى يستيقظ وأحيانًا أجده نائمًا على طرف سريرنا وهو يوقظ أباه.