بنفسج

مساحيق التجميل بين التحرر والحرية الشخصية عند النسويات

الجمعة 12 يونيو

مقولة أن النسويات يرفضن وضع مساحيق التجميل، هي مقولة لا تعبر بشيء عن توجهات الحركة النسوية، إنما هي فقط حرية شخصية. إلا أنهنّ في نفس الوقت يدعين المرأة إلى ممارسة الحرية الشخصية بشكل لا يفقد من فردانيتها، ولا يفقد من جوهرها الإنسانيّ الخاص بها كامرأة، أي هويتها الشخصية.

إنني لا أنفي بأن النسويات لا علاقة لهنّ بعالم التجميل والموضة، ولا أحرّض على المكياج كأحد أدوات الموضة بعدم استخدامها، ولكن أن تصل المرأة اليوم إلى وضع مفاده أنها لا يمكنها الخروج من البيت أو التعامل مع الحوارات والمواقف الاجتماعية إلا بإظهار نفسها –حسب ما ترى نفسها جميلة- بوضع مساحيق التجميل بشكل مبالغ فيه على وجهها، والوصول إلى مستوى من الثقة بنفسها؛ بأنها جاهزة للخروج، إنّ هذا ما يقلقني.

 | تقبّل الذات

تقول لينا باي، وهي نجمة كورية مشهورة في تقديم محتوى رقمي حول الماكياج على قناة اليوتيوب: "أدركت أن ثمة مشكلة، فأردت عمل نوع جديد من الفيديوهات كي أخبرهن بأنه لا بأس بوضع مستحضرات التجميل"، في تفاعل لها مع حملة (اهربي من المشد)، خاصة بعد أن توالت عليها تعليقات من المراهقات، واللواتي اتفقن بالإجمال على أن وضعهنّ لمساحيق التجميل يمنحهنّ بعض الشجاعة! (عربي بوست، 2018).

نحن فعليًا أمام مشكلة تستهدف مختلف الفئات العمرية عند النساء في نظرتهن لجمالهن، ومستوى الثقة المرتبط بدرجة الجمال الخاص بهن من جهة، ومعايير الجمال الثقافي الموروث في مجتمعنا. وهذا ما تؤكده دراسة إدريس (1985)، التي خَلُصَت إلى نتيجة بأن مستحضرات التجميل تحظى بأهمية واهتمام واضحين على اختلاف خصائص النساء العمرية، والدخل، ومستوى التعليم، وكذلك ارتباطها بالتكوين النفسي المميز للمرأة.

كيف يمكن للمرأة أن تصل إلى هذه الدرجة من الاستهلاك الفعلي لأدوات الجمال حتى تصل إلى درجة من الشجاعة؛ لتتقبل ذاتها وتتعامل بكل حرية – حسب مفهوم المرأة- مع عناصر المجتمع الأخرى؟!

(أهربي من المشد)، هي حملة عالمية للتغلب على معايير الجمال القاسية في مجتمعهن (كوريا الجنوبية)، والتي استوحت أفكارها من حركة Me too العالمية، التي سعت لمواجهة الثقافة الأبوية المتجذرة في المجتمعات بتحديهن لسلوكيات، وأفكار، وتوجهات مرتبطة بالعمليات التجميلية، ومستحضرات التجميل في واحدة من أكثر دول العالم هوسًا بالجمال، فليس بالضرورة أن يكون الجمهور في مكان واحد، بل قد يكون جمهورًا خاضعًا لنفس الفكرة في مختلف الأماكن في العالم، بينما قد يجتمع العديد من الأشخاص في مكان واحد صدفة دون أن يربطهم شيء (لوبون، 1991).

وفي معرض الحديث هنا، تورد "كيم مي يون" إحدى الناشطات في هذه الحملة "بأننا نمر بـِ 12 خطوة فقط كي نضع على وجهنا مستحضرات الأساس قبل أن نضع حتى مستحضرات التجميل، وهذا يحدد المشكلة بصورة جوهرية". (عربي بوست، 2018). وهنا، يظهر أن المشكلة تتحدد بصورة جوهرية، بـــ كيف يمكن للمرأة أن تصل إلى هذه الدرجة من الاستهلاك الفعلي لأدوات الجمال حتى تصل إلى درجة من الشجاعة؛ لتتقبل ذاتها وتتعامل بكل حرية – حسب مفهوم المرأة- مع عناصر المجتمع الأخرى؟!

| استغلالٌ للرّبح

إن شركات الإنتاج تستغل كل عناصر الجمال في الأنثى بطريقة متحررة من الكثير من القيم الأخلاقية والثقافية، وتقدّم مادتها الإعلانية في إطار حسي يخلق تأثيرًا قويًا في وعي المستهلك، خاصة إذا كان المستهلك هو المرأة، وهذا يبخسها حقها كقيمة إنسانية، ويسلعن وجودها بشكل غير أخلاقيّ. ورسالتنا هي بتبني الجمال القيمي النابض بالحياة والأصالة.
"إن أسمى أنواع الجمال ليس ذلك الذي يفتننا على الفور، بل الذي يتسلّل إلينا ببطء، نحملهُ معنا ونحن لا نكاد نشعر به".

"إيمانويل كانت" في كتابه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق)، صرّح بأن "رغبات البشر مبنية على احترام قيمة الذات، وزيادة حدة الوعي الذي يحدد منطق الشخص، وقدرته على التمييز بين الرغبات والأفعال" (كانت، 2019). وهذا ينقلنا لمفهوم المسؤولية المجتمعية، ومدى تبني عالم التسويق بشركاته ومؤسساته للمسؤولية بالالتزام الشامل بتحقيق الرفاه الاجتماعي والحياة الأفضل لكافة فئات المجتمع، أي أن يكون لها دور وهدف أبعد من جمع الربح والإنتاج، فهل هذا يتحقق مع السلع والخدمات في الإعلانات الموجهة للمرأة؟

وهذا ما حاولت دراسة التميمي (2010) الكشف عنه، وقد توّصل فيها إلى قصور الشركات المصممة لإعلانات مستحضرات التجميل عن تبني المسؤولية الاجتماعية؛ بغية توجيه المرأة لتقبل وتقدير ذاتها، بالإضافة إلى أن العلاقة بين تبني المسؤولية المجتمعية ونمط المسؤولية الاقتصادي لشركات مستحضرات التجميل بالتركيز على الهدف الاقتصادي (الربح)، أكثر مما هو تحقيق الرفاه الاجتماعي، واحترام وتعزيز قيم تقبل الذات عند المرأة.

إن الصور النمطية تؤثر على درجة احترام المرأة لذاتها، ومع تشدد الصور النمطية والمعايير المجتمعية المرتبطة بالجمال، فإنه من شأنه أن ينتهي بنتيجة مفادها فقدان النساء لاحترام ذواتهنّ وانعزالهنّ عن المجتمع العام.

وتتفق مع هذه النتيجة دراسة عمارة (2015)، التي أشارت إلى وحشية الربح باستغلال جسد المرأة بتوظيف كل عناصر الجمال بطريقة مرنة ومتحررة على حساب الكثير من القيم الأخلاقية والثقافية؛ لإيصال الرسالة الإعلانية، والتي هي بالأصل تحتاج لإقناع المستهلك بحملها معلومة تقدّم في إطار حسي وانطباعي من شأنه أن يخلق تأثيرًا قويًا في وعي المستهلك، وخاصة إذا كان المستهلك هو المرأة، وهذا تبخيس بحق المرأة كقيمة إنسانية، وسلعنة لا أخلاقية لكيانها الوجودي.

إن الصور النمطية تؤثر على درجة احترام المرأة لذاتها، ومع تشدد الصور النمطية والمعايير المجتمعية المرتبطة بالجمال، فإنه من شأنه أن ينتهي بنتيجة مفادها فقدان النساء لاحترام ذواتهنّ وانعزالهنّ عن المجتمع العام. وهو ما ركز عليه عمارة (2015) في مقاله، بأن مفهوم الذات عند المرأة يحمل الجانب السلبي في ثلاثة أبعاد، وهي: صورة المرأة في العقلية العلمية والمعرفية، فصورتها لنفسها غالبًا ما تتسم بتقليل احترامها وأنها أقل من الرجل، فكما تنظر لنفسها بدونية، فالرجل ينظر إليها كذلك.

أما البعد الثاني؛ فيتمثل في افتقار المرأة لهوية مستقلة واعتبار ذاتها جزءا من ذات الرجل. وأما الثالث؛ فيتمثل في تحاشي الإعلام في التعامل مع المرأة كعنصر مجتمعيّ فاعل وقوي، ومؤثر مساوٍ للرجل في التعامل مع جميع القضايا المجتمعية، وعنصر قادر على تناوله، وليس عنصراً يتم اختزال دوره فقط في البعد الجنسي بتوظيفه في الإعلانات فقط؛ لتحقيق الهدف التجاري.

بعد كل هذا، هل يمكنك أن تحيي بلا مكياج؟ جربي مرة، لن تخسري. لا نقول تخلي عن ذلك كليًا، وإنما الاتزان المعتدل في الاستخدام وعند الضرورة، ربما يستلزم ذلك وقتًا، إلا أن الوصول إلى مستوى من تقبل الذات والتصالح معها أمر ليس بالهين، ولكنه ممكن. تساؤل آخر وأخير يراودني، ما الفرق بين هيئتك وأنت في المنزل بلا مكياج، وعندما تكونين في البيئة الخارجية؟ ما الذي يفرق عندك كأنثى على المستوى النفسي؟! الذي أريد أن أفهمه هو مدى تصالحنا مع ذواتنا وتقبلها باختلاف هيئاتنا، وبيئاتنا، ومواقفنا في الحياة.

وختامًا، أقتبس مما قالته "بين هيون" إحدى رائدات الحركة العالمية (اهربي من المشد) في كوريا الجنوبية، "لو أمكنني التصرف بحرية لقللت من استخدامي لمستحضرات التجميل"، ونصيحتها لعموم النساء بأن "لا تنشغلي إلى هذا الحد بنظرة الآخرين إليك، أنت مميزة، وجميلة كما أنتِ". أما قولفريدريش نيتشه، الفيلسوف الألماني المتشائم والقاسي بفلسفته، فقد صدمني قوله في الجمال، وكأنه ينصحنا، فيقول: "إن أسمى أنواع الجمال ليس ذلك الذي يفتننا على الفور، بل الذي يتسلّل إلينا ببطء، نحملهُ معنا ونحن لا نكاد نشعر به".