بنفسج

كعك العيد في سجن الأسيرات.. هل لك أن تتخيِّل؟!

الأربعاء 28 يونيو

كما لو أنَّك لم تتذوق الحبَّ من قبل، سترسم في خيالكِ هذا المشهد، في تلك الغرفة الصغيرة ستجدها تجلس أمام الطبق الكبير، تنظر إليه وكأنها تحفظ قوامه وتستنشق رائحته قبل أن يسرقها هواء دخول السَّجان -كعادته-. ستلتهمُ عايدة أولَ قطعةٍ من الكعك ودون أن تعطيَ فرصةً للتفكير ستنقضُّ على القطعة الثانية وهي تقول: الله الله! لا أصدق، كعك العيد في غرفة السجن!

كانت المفاجأة أمام الأسيرة عايدة المصري أكبر من أن تنتهي عند مديحٍ ولقمةٍ تليها لقمة، فقد عاشت عيدين متتاليين في سجن الدامون الإسرائيلي، وهي تنتظر طيَّ عجلة الأيام، لتعيش العيدَ الكبير بحريتها. كانت تدرك عايدة أنَّ هذه الأيام تُحسبُ من عمرها، وإن كان حُكمٌ بالسجن لمدة سبعة أشهر أمام أسيرةٍ لم تتجاوز الـ 22 عامًا ما هو إلَّا حكمٌ جائر، وقعهُ كبيرٌ عليها وعلى عائلتها، إلَّا أنَّها اختارتْ الاحتساب والرضا بقضاء الله.

أجواء العيد في سجون الاحتلال الإسرائيلي

IMG-20230621-WA0019.jpg

في هذا الحوار تعيش "بنفسج" يوم العيد بتفاصيله ومراسمه في سجن الأسيرات الفلسطينيات، فلم يكن الأمرُ سهلًا أن نُقلِّب الذكريات مع الأسيرة المحررة عايدة، وهي التي كانت تعيش كلَّ عيدٍ كشعور طفلٍ لا يحب أن يكبرَ في مثلِ هذه المناسبات. فمراسمُ العيد في غرف الأسيرات أقرب ما تكون تحدِّيًا يحاولنَ سرقته عنوةً رغم كل القيود. فما بين أسيرةٍ اعتادتْ أن تعيش العيد في زنزانتها لسنواتٍ طويلة، وبين أسيرةٍ ترى الكابوسَ كلَّ ليلة تحت سقفِ السؤال: كيف سأعيش العيد دون العائلة؟! لكن سرعان ما يؤخذ قرار السعادة، فتبدأَ مراسم الاحتفال داخل الغرف حتَّى تعقدُ كلَّ أسيرةٍ عزمها على صناعة بهجةِ العيد وإحياء الشعائر.

تعود عايدة بذاكرتها لتلك الأيام قائلة: "تبدأ طقوس عيد الأضحى من لحظة دخولنا للعشر الأوائل من ذي الحجة، فتكون الروحانيات في كلِّ زاويةٍ من زوايا السجن، فصدى التكبيرات وتلبية الإحرام أقربُ ما يكون بالصوتِ الأنيس لنا." ولا يمكن أن تنسى عايدة أكثر اللحظات شاعريةً خلال عيد الأضحى الماضي، عندما تمكَّنت بعض عائلات الأسيرات المقدسيات من السفر لأداء فريضة الحج، فقد كان الحماس داخل السجن باديًا على وجوه الأسيرات، وهنَّ ينشدن معًا أناشيد الحج، وينادون بصوتٍ واحد: "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".


اقرأ أيضًا: من ظلمات السجن إلى نورِ مكة: أسيرةٌ تلمسُ الكعبة!


تتابع عايدة تفاصيل أيام ما قبل العيد، خاصةً تلك الزيارة التي يأتي بها أهالي الأسيرات وهم يحملون معهم ثياب العيد لأجل أن تعيش الأسيرات شيئًا من أجواء العيد. وفي الحقيقة لا تقتصر الطقوس على ملابس العيد الجديدة فحسب، بل كانت المفاجأة الكبرى لعايدة عندما عرفتْ أنّ الأسيرات سيصنعنَّ كعك العيد بأنفسهنَّ. هل لكَ أن تتخيل ذلك؟ ورغم بساطة المكونات المتوفرة في المطبخ إلَّا أنهنَ ينجحن في تجهيز الكعك برائحته الفوَّاحة، وإن فُقِدتْ مكوناته، لكنَّهن ينجحن، وربما السر في ذلك هو مكوِّن الحب الذي يسكن دواخل هؤلاء الأسيرات.

العيد والاشتياق للأهل

وأمَّا عن يوم عرفة، ذلك اليوم الذي تطوف فيه القلوب بدعائها بالحرية القريبة، فتعكف الأسيرات على استغلال كل لحظةٍ لعيش روحانية اللحظات الأخيرة. وبعد أن تغرب شمس ذلك اليوم، تبدأُ الأسيرات بإطلاق تكبيرات العيد، وتقوم ممثلة الأسيرات بتوزيع هدايا للأسيرات وهي عبارة عن حلويات جاهزة تشتريها من الكنتين؛ لتتبادل الأسيرات حينها التهاني والأحضان الممزوجة بشوقٍ دفين لقضاء العيد مع الأهل.

وأمَّا عن صباحِ العيد، فتستيقظ جميع الأسيرات مع ساعات الفجر ليتجهَّزن لصلاةِ العيد، وسرعان ما تنادي ممثلة الأسيرات وهي تُطالبهنَّ بالاستعجال، خوفًا من تراجع إدارة السجن عن السماح لهنَّ بالخروج المبكر نحو الساحة. تبدأ إحدى الأسيرات بإلقاء خطبة العيد بعد تحضيرها منذ أيام. وما أن تنتهي الصلاة حتَّى تصطف الأسيرات وهنَّ يحتضنَّ بعضهنَّ البعض ودعاؤهن: كلُّ عام ونحن للحرية أقرب.بعد أن تنتهي الأسيرات من صلاة العيد والتهنئة، تبدأ أوامر إدارة السجن بإفراغ الفورة من الأسيرات، ورغم هذا التنغيص إلَّا أن الأسيرات يواصلن احتفالهنَّ وابتهاجهن من خلال اجتماعهنَّ في غرفة المكتبة، ليجلسنَ معًا يتناولنَ الكعك ويسردن حكايات "العيد القديم" ويضحكن على تلك الذكريات.


اقرأ أيضًا: "بدنا نروح ع العيد": عن الترويحة في المخيال الفلسطيني


بعد صلاة الضحى تذهب كل أسيرة إلى "البرش" وهو السرير المخصص لنوم الأسيرة، ولا تنكر عايدة صعوبة تلك اللحظة قائلةً: "تجلسُ كلَّ أسيرةٍ وبينها وبينِ الصور القليلة المُخبَّأة تحت وسادتِها تُذرفُ دموع الشوق للعائلة. والحقيقة أنَّ ما يُهوِّن تلك المشاعر هو القدر الجميل مع إذاعات الأسرى وهي تفتح بثًا مع أهالي الأسيرات لإرسال التهاني والقبلات."

طقوس العيد لدى الأسيرات الفلسطينيات

IMG-20230626-WA0008.jpg

وأمَّا عن غذاء اليوم الأول، تقول عايدة: " في عيد الأضحى الماضي نجحنا في صنعِ وليمةٍ كبيرة لكلِّ الأسيرات، وكانت عن روح الأسيرة الشهيدة سعدية فرج الله، التي استشهدت في سجون الاحتلال الإسرائيلي قبل العيد بأسابيعَ قليلة." بعد انتهاء ساعة الغذاء والتي تتخللها الكثير من الذكريات والأحاديث الممتلئة بالحنين، تتعاون الأسيرات في تنظيف المكان وترتيبه. ليتابعنَ فقرات جديدة كاللعب والألغاز والمناظرات الشعرية.

تُحدِّثنا الأسيرة المحررة عايدة عن تلك الذكريات، وهي تنظر الآن لكلِّ الفروقات ما بين عيدِ السِّجن وعيد الحرية، فاليوم عايدة تُحلِّق في سماء حريتها تفتحُ الشُّباك تتأمل غروبَ الشمس وهي تُرسل دعواتها قبل ساعات الإفطار، تجلسُ أمام التلفاز تتأملُ ضيوف الرحمن وتسمعُ تكبيراتهم وتردد خلفهم بصوتٍ عالٍ، فلا أحد سيطرقَ الباب بعنف يُطالبها بخفضِ صوت تكبيراتها وإلَا فإن الانفرادي سيكون مصيرها.


اقرأ أيضًا: في غرف الأسيرات: ماذا تعكس مرآة الزنزانة؟ [2]


كلُّ شيءٍ تغيَّر في عيون عايدة، فبعد أيامٍ سترتدي لباسها لتصلي صلاة العيد في ساحة المسجد الكبير وتلتقط الكثير من الصور رفقة صديقاتها. فهذه المرة لن تُحدَّد الدقائق لخروج عايدة إلى الساحة، ستبقى تطيرُ بجناحيها من أجل -لفة العيد- تحلُّ من بيتٍ إلى بيت، تجلسُ ضيقةً ومُستضافة، تشرب القهوة وتأكل حلويات عيد دون أن تحفظ قوامه أو تعدُّ حصتها، ففي البلاد الحرة ستأكل عايدة كعك العيد على أصوله وتمامه.