بنفسج

في غربتي.. لا عيد كعيد البلاد

الأربعاء 05 يوليو

غرقتُ في الذكريات حتَّى أيقظني صوتُ أذان المغرب تبعه ثلاث تكبيرات إشعارًا لليلة العيد، وهكذا تنتهي التكبيرات، فلا صغار يجوبون الشارع يرفعون أصوات التكبيرات.  فكلُّ شيءٍ في بلاد الغربة مختلفٌ تمامًا عن عيد البلاد، ولا يمكن لهذا الشعور أن يغادرنا مهما طالت سنوات البعد، ومهما اعتدنا على عادات وتقاليد لا تشبه ما كبُرنا عليه، فبعد ثلاث سنوات ونصف من العيش بعيدًا عن تكبيرات العيد، ورائحة الكعك المغموس في السمن البلدي، وعصرة الليمون مع الفلفل وهو يطفو فوق الفسيخ والرنجة، وكأس الشاي الممزوج بالنعنع بعد وجبة الفطور، والنِّزاعات الحلوة بيني وبين أخواتي أمام المرآة، وذلك الطابور الذي كنَّا نطلق عليه "طابور الخجل" ونحن نقبِّل يد أبي وهو بدوره يُخرج العيدية من جيبه، لنبدأ بعدها سلسلةَ المقارنات والسؤال المُعتاد: لماذا عيديتك أكثر مني؟!

الساعة تشير إلى الثامنة، فبعد 10 دقائق من الآن ستنقضي آخر أيام الصيام، ستغربُ شمس عرفة وهي تحمل أمنياتنا الصغيرة الكبيرة، كنتُ أراقب الغروب أمام الشباك الكبير ويدي على قلبي، أحاول أن أطبطبَ على رغبته في إشعال صوت الحنين الدائم.

أغمض عيني ثانيةً وأستسلمُ هذه المرة لنفسي، فهذه الأيام تختلف طقوسها تمامًا في البلاد، ستجد أمي قد حوَّلتْ البيت في يوم عرفة إلى منطقة عسكرية خطيرة، وعلى جميع سكان البيت الخضوع لأوامر السلطات وإلَّا فإن عقاب نبع الحنان لن تُحمد عقباه، فكلُّ زاويةٍ في البيتِ عليها أن تنعم بالماء والصابون، ولم نكن نعترض إن طال الأمر أيضًا تنظيف الأسقف، ورفوف الثلاجة، وعلى الزاويةِ الأخرى ستجد أمي أيضًا قد رفعتْ صوت المذياع على تلبيةِ الإحرام ويليها تكبيرات صوت العيد، لتجلسَ برفقة الماهرات من أخواتي يتناوبنَ الجلوسَ أمام الفرن لتجهيز صواني الكعك والمعمول، وكلٌّ قد علمَ حصته ونصيبه فقانون أمي في ليلة العيد: لا عيد دون الكعك والمعمول.  

غرقتُ في الذكريات حتَّى أيقظني صوتُ أذان المغرب تبعه ثلاث تكبيرات إشعارًا لليلة العيد، وهكذا تنتهي التكبيرات، فلا صغار يجوبون الشارع يرفعون أصوات التكبيرات.  فكلُّ شيءٍ في بلاد الغربة مختلفٌ تمامًا عن عيد البلاد، ولا يمكن لهذا الشعور أن يغادرنا مهما طالت سنوات البعد، ومهما اعتدنا على عادات وتقاليد لا تشبه ما كبُرنا عليه، فبعد ثلاث سنوات ونصف من العيش بعيدًا عن تكبيرات العيد، ورائحة الكعك المغموس في السمن البلدي، وعصرة الليمون مع الفلفل وهو يطفو فوق الفسيخ والرنجة، وكأس الشاي الممزوج بالنعنع بعد وجبة الفطور، والنِّزاعات الحلوة بيني وبين أخواتي أمام المرآة، وذلك الطابور الذي كنَّا نطلق عليه "طابور الخجل" ونحن نقبِّل يد أبي وهو بدوره يُخرج العيدية من جيبه، لنبدأ بعدها سلسلةَ المقارنات والسؤال المُعتاد: لماذا عيديتك أكثر مني؟!

أتذكر هذه التفاصيل وأضحك، فالهدوء المُبالغ فيه هنا يجعلك تشكك في كثير من الأحيان أنَّ العيدَ له عتابٌ على هذه المدينة. حاولتُ كثيرًا أن أصنعَ ليَ عيدًا مختلفًا، وبيني وبين نفسي أعترف أنَّي نجحتُ في هذا نوعًا ما، فبدأتُ ذلك من تجهيز بيتيَ الصغير، فكما تفعل أمي فعلتُ تمامًا، أنظِّف غرفة الضيوف، وأمسح الشبابيك، وأفتح تكبيرات العيد، وربما كبُر معي الحماس أكثر للحد الذي جعلني أخرج ليلة العيد إلى مركز المدينة لأشتري بعض الحلويات وأجَّهزُ بها طاولتي. 

في حقيقةِ الأمر لا أحد سيزورني في البيت، فهنا عادةً ما يعود الأصدقاء الذين أعرفهم لزيارة أهاليهم في القرى، لكن الأمر أصبح يرتبط بداخلي أكثر من أيِّ شيء آخر.  فالعيد ليس بالضرورة في كلِّ الأشياء الكبيرة والطقوس الحنونة التي كبُرنا عليها، فقد أصبح إيماني أنَّ العيد مرتبطٌ بسعادتي، وسماع صوت عائلتي وهم يغنون أغاني العيد، وأرى صورهم وهم يرسلونها لأختار الأحلى، اختلف الإيمان تمامًا، فالعيد في كلِّ لحظة حب وسعادة وطمأنينة.