بنفسج

"نصيبي طلع تاجر مخدرات..."

السبت 13 يونيو

قصة حقيقية من غزة
قصة حقيقية من غزة

والدها مريض نفسي ومعاقٌ حركيًا، غير قادر على العمل والإنفاق على أسرته، ووالدتها مطلقة، وزوجة أبيها تعنّفها صباح مساء، هذا واقعٌ عاشت فيه "أمل" منذ كان عمرها أشهراً قليلة، حتى بلغت السادسة عشر، لتبدأ بعدها مرحلة أخرى من حياتها؛ كانت فيها ضحية الزواج في سنّ صغيرة من مدمن مخدرات، لكنها لم تستسلم، كافحت بإمكاناتها المحدودة لتوفر حياة أفضل لأبنائها، ولما تكشّفت أمامها الحقائق، هيأت طريق زوجها إلى السجن، ليكون حبسه محطة جديدة تنطلق منها نحو مرحلة ثالثة في حياتها.

بطلة هذه القصة، في منتصف الثلاثينيات من عمرها، أخفينا اسمها الحقيقي لخصوصية حالتها، واختارت أن يكون الاسم المستعار لها "أمل"، فالأمل شعارٌ ترفعه بعد أن عولج زوجها من الإدمان داخل السجن.

| الخلاص المزعوم

أمل اسم مستعار لسيدة ثلاثينية من غزة، اضطرت للزواج في سن صغيرة للتخلص من حياتها مع زوجة أبيها بعد وفاة أمها، ليكون نصيبها رجل مدمن وتجار مخدرات. 
اختارت اسم أمل؛ لأنها لم تستلم لهذا الواقع بل رفضت هذا الحال؛ فبلغت عن زوجها، وفي يوم محاكمته طلبت من القاضي أن يضاعف عقوبته ليرتدعن ليتعالج ويخرج من سجنه وقد تغيّر حاله.

تقدّم لها خاطبا وهي في بداية المرحلة الثانوية، لم يكن "عريسًا لقطة" على الإطلاق، بل السلبيات كانت واضحة وضوح الشمس، منها، أنه لا يُتعب نفسه بالبحث عن عمل، ومعروف بين أهل الحيّ الذي يسكنه بأخلاقه السيئة، وبأن السرقة سبيله لتوفير المال، وغير ذلك الكثير الكثير. وافق الأب على تزويج ابنته لهذا الشاب، ليتخلص من عبء الإنفاق عليها، أما هي، فلم يسمح لها عمرها الصغير بتوقع شكل حياتها القادمة، كل ما فكّرت فيه أنها ستنجو من تعذيب زوجة أبيها. كان هذا الزواج قبل 18 سنة، أنجبت خلالها "أمل" تسعة أطفال، أصغرهم في عامه الثاني.

في بيتها الصغير الذي وضع الفقر بصمته في كل بقعة منه، كانت تجلس بين أبنائها، بينما زوجها الذي تتكلم عنه نائم تحت تأثير الدواء في الغرفة الأخرى، وقبل أن تبدأ بسرد حكايتها، اقترحتُ عليها أن نتحدث بعيدا عن مسامع الصغار، فكان ردها أنهم يعرفون كل شيء، وهذا ما بدا واضحا من مشاركتهم في الحديث، تارةً يؤكدون ما تقوله والدتهم، وتارة أخرى يذكرونها بتفاصيل نسيتها.

ترجع إلى البدايات، فتقول: "عندما تزوجت كنت صغيرة في العمر، غير متعلمة، لم أختلط بالناس كثيرًا، وليس لي خبرة بالحياة، لذا، لم أشكّ في سلوك زوجي، كان يوبخني، فأظنه حاد الطباع، يصرخ عليّ، فأُرجع ذلك لعصبتيه، يبرحني ضربًا، فأسكت حتى لا يعاني أبنائي من تبعات انفصال الوالدين التي عشتها أنا". وتضيف: "لم يكن ينفق على البيت، فاعتدت على أخذ الصدقات من فاعلي الخير، وكان يلاحقني في هذا المال، واعتقلته الشرطة أكثر من مرة، بتهمتي السرقة وعدم سداد الديون".

وتتابع: "بعد ست سنوات، رأيته يتناول أدوية في السر، ولما سألته أخبرني أنه مريض نفسيا، وطلب مني ألا أبوح بهذا السر لأحد لأنه يخجل من مرضه". أشفقت "أمل" على زوجها، وأصبحت تقتطع من مال الصدقة الذي تحصل عليه مبلغا ليشتري به أدويته.

لم يدُم تصديقها لكذبة زوجها كثيرا، فبعد أقل من عام بدأت تشكّ بأن خطأً ما يحدث، إذ لاحظت أنه لا ينام في الليل، وأن رجالًا غرباء يترددون عليه في أوقات متأخرة، يتحدث معهم قليلا أمام باب البيت، ثم ينصرفون، في هذا الوقت، كان الرجل قد انتقل من تعاطي المخدرات إلى المتاجرة بها.

| وسقطت ورقة التوت

أوهم زوج أمل بأنه مريض نفسيا، عندما اكتشفت أنه يتناول بعض الأدوية بالسر، فتعاطفت معه وسترت سره. استمر على هذا الحال [6] سنوات أنجبنا فيهن [9] أطفال.
لينكشف أمره بعدها بواسطة أحد أبنائه.
واجهت أمل زوجها الذي لم ينكر الأمر، وبدأ " يلعب على المكشوف"، فيستضيف المدمنين في بيته، ويستغل أبناءه في تجارة المخدرات. 

ذات يوم، عرض زوجها على أحد أبنائهما، وكان في الثامنة من عمره آنذاك، أن يذهب معه إلى السوق، فرحت "أمل" لتطور العلاقة بين الأب وابنه، سرعان ما عادا إلى البيت دون شراء أي شيء، فسألت الطفل عن السبب، أجابها ببراءة: "بابا أعطاني حبوب وحكى لي أعطيها لعمو الواقف هناك".

هنا، انكشف المستور، وحلّت الصدمة على "أمل"، فهمت أن زوجها مدمنٌ وليس مريضاً نفسياً، وأن تلك الحبوب التي كان يتناولها سرّا، إنما هي مخدرات وليست علاجًا. أمّا استخدام زوجها لابنها في هذا العمل، فكان يفوق قدرتها على الاستيعاب.

فقدت السيطرة على نفسها، وأخذت تصرخ على زوجها: "يعني أنت تاجر مخدرات؟! وتجرّ ابنك للمصيبة؟!" فما كان منه إلا أن أقرّ بذلك بكل برودة أعصاب، لكنه ثار عندما قالت إنها ستخبر الشرطة، فأبرحها ضربًا، حتى هربت لخارج المنزل، وفي الشارع، أنقذها الجيران من بين يديه.

لم يتراجع، بل صار "يلعب على المكشوف"، فمثلًا، صار يستضيف المدمنين في البيت، ويأخذ من الطعام القليل الذي توفره زوجته بصعوبة، ليبيعه ويشتري المخدرات، ويستغل أبناءه الصغار في نقل المواد الممنوعة.

حذّرته مجددًا من إبلاغ الشرطة، فلم يأخذ تهديدها بجدية، وطلّقها بتشجيع من والدته، فاضطرت للمكوث مع أبنائها في "بيت الأمان"، وهو سكن حكومي للمعنّفات، لكنها عادت له في غضون شهر واحد، فقد رأت أن عودتها أفضل لأبنائها. عودتها لا تعني أنها تخلّت عن معاقبته، استشارت جارها الذي يعمل في شرطة مكافحة المخدرات، فأوصاها بالاتصال به عندما تحصل على معلومة تثبت تورط زوجها.

بعد أيام، استضاف الزوج بعض "زبائنه"، فارتدت ملابسها وأخبرته أنها ذاهبة لزيارة جارتها، وخرجت من البيت بالفعل، ثم تسللت للداخل مجددا، لتستمع للحوار الدائر، وقد وجدت فيه ضالتها، حيث أبلغ زوجها ضيوفه بالمكان الذي سيسلمهم فيه "البضاعة". اتصلت بجارها الشرطي فورًا، وأخبرته بالتفاصيل، وهكذا تم إلقاء القبض على زوجها "متلبسًا".

"كان يوبخني في كل زيارة، ويهددني بتطليقي عندما يخرج، وفي نهاية فترة حكمه حصل على العلاج، فتغيّرت نظرته لي، وقرر ألا يعود لماضيه، وعندما عاد للبيت كان مختلفًا تمامًا في سلوكه وتعامله معي ومع الأبناء، وصار يفكر بنا، ويسعى لتوفير لقمة عيشنا، فشعرنا بوجوده، وتغيّرت علاقتنا به".

من أين جئتِ بهذه الشجاعة؟ تجيب: "فعلت هذا لحماية أبنائي، فابتعاد أبيهم المدمن عن البيت عدة سنوات كفاهم شرورا كثيرة، منها أنه كان يحاول أن يجرّ الأبناء الذكور للعمل معه، بالإضافة إلى خوفي من اعتدائه على البنات، أو السماح لأصدقائه بذلك مقابل المال، فعقله يغيب عندما يطلب الجرعة ولا يجدها، وكذلك سمعة الأسرة كانت على المحك، فابنتاي الكبيرتان حافظتان لكتاب الله، ومتفوّقتان في الدراسة، ويشيد الكل بأخلاقهما، لكن المجتمع لن يرحمهما بسبب تصرفات أبيهما".

في الزيارة الأولى له في السجن، أخبرته أنها من أبلغ عنه، وفي جلسة المحاكمة الأولى، طلبت من القاضي أن يشدد عقوبة زوجها لـ"يتأدّب". حوكم الرجل بالسجن لخمس سنوات، تمت خلالها معالجته من الإدمان، فقد "دخل السجن شخص، وخرج آخر"، وفق ما أجمعت عليه "أمل" وأبناؤها.

تقول: "كان يوبخني في كل زيارة، ويهددني بتطليقي عندما يخرج، وفي نهاية فترة حكمه حصل على العلاج، فتغيّرت نظرته لي، وقرر ألا يعود لماضيه، وعندما عاد للبيت كان مختلفًا تمامًا في سلوكه وتعامله معي ومع الأبناء، وصار يفكر بنا، ويسعى لتوفير لقمة عيشنا، فشعرنا بوجوده، وتغيّرت علاقتنا به".

وتضيف: "صحيح أنه تغيّر، لكنه لا يستطيع تقديم الكثير لنا، فهو ما يزال يتناول أدوية مهدئة ومنومة، ينام بسببها أغلب ساعات اليوم، بالإضافة إلى أنني لا أحبّذ تحركه لجني المال، خشية أن يلجأ للسرقة، أو أن يكون خروجه المتكرر من البيت سببًا لعودته للمخدرات".

| صفحة جديدة

أنقذت أمل أبناءها من الوقوع في مستنقع المخدرات، والتفتت إلى أهمية التعليم لأنها لم تكمل تعليمها، فحرصت على تعليم أبنائها، والآن معظمهم من الأوائل. وتبيّن: "وجّهت أبنائي للتردد على المسجد، ليعرفوا تعاليم الدين والأخلاق الحميدة، حتى لا يتأثروا بوالدهم، ولكي يشغلوا وقتهم بأشياء مفيدة كالمشاركة في المخيمات التي تُنظم في المسجد في الإجازة الصيفية، بدلا من التفكير بهموم الحياة التي يعيشونها".

لا بد من الحديث عن الأبناء التسعة الذين كانوا شهودًا على المأساة، وكاد بعضهم أن يصبحوا ضحايا في مستنقع المخدرات. أمهم التي قبلت تلك الحياة لأجلهم، حاولت بطرق شتى أن توفر احتياجاتهم، وأن تبعدهم عن طريق والدهم، وأن تلعب دور الأب أيضا.

توضح "أمل" أنها تقوم بجولات مكوكية بين المؤسسات الخيرية لطلب المساعدات النقدية أو العينية، وأنها تجمع القرش على القرش بصعوبة لتوفر لهم الطعام، وإذا حصلت على مبلغ كبير نسبيًا تشتري لهم بعض احتياجاتهم الأخرى لتدخل السرور على قلوبهم.

وتلفت إلى أنها عرفت أهمية التعليم لأنها لم تكمل تعليمها، فحرصت على تعليم أبنائها، والآن معظمهم من الأوائل. وتبيّن: "وجّهت أبنائي للتردد على المسجد، ليعرفوا تعاليم الدين والأخلاق الحميدة، حتى لا يتأثروا بوالدهم، ولكي يشغلوا وقتهم بأشياء مفيدة كالمشاركة في المخيمات التي تُنظم في المسجد في الإجازة الصيفية، بدلا من التفكير بهموم الحياة التي يعيشونها".

تقطع الابنة الكبرى حديث والدتها، لتقول: "كنت أشجع أمي على طلب الطلاق رأفة بحالها، فكانت تقول لي إنها تصبر لحمايتنا، وأعتقد أنها تمكنت من حمايتنا فعلا، خاصة عندما أبلغت عن أبي، فقد عشنا خمس سنوات دون الخوف من خطر وجوده، والأهم أنه تغيّر، وأصبحنا نشعر أن لنا أبًا".

تبتسم "أمل" لكلمات ابنتها، وتقول: "أنا فخورة بما حققته، وأدعو كل سيدة تعاني مثلي للإبلاغ عن زوجها، دون الخوف من هدم الأسرة، فحبس المدمن يحمي الأسرة والمجتمع، فاعتقال زوجي أدى إلى كشف شبكة كاملة كان من الممكن يرتكب أفرادها الكثير من الجرائم"، مضيفة: "بعد خروج زوجي من السجن فتحنا صفحة جديدة، وأتمنى أن نبني معًا مستقبلا جيدا لأبنائنا".

| بين الوعي والخوف

 
 "أنا فخورة بما حققته، وأدعو كل سيدة تعاني مثلي للإبلاغ عن زوجها، دون الخوف من هدم الأسرة، فحبس المدمن يحمي الأسرة والمجتمع، فاعتقال زوجي أدى إلى كشف شبكة كاملة كان من الممكن يرتكب أفرادها الكثير من الجرائم"، مضيفة: "بعد خروج زوجي من السجن فتحنا صفحة جديدة، وأتمنى أن نبني معًا مستقبلا جيدا لأبنائنا".

"أمل" واحدةٌ من شجاعات عديدات أبلغن عن أزواجهن ذوي التهم المختلفة، لإيمانهن أنهن بذلك يحمين بيوتهن ومجتمعاتهن. عن هؤلاء النسوة، يقول الناطق باسم الشرطة في قطاع غزة العقيد أيمن البطنيجي: "تتقدم بعض النساء ببلاغات ضد أزواجهن في قضايا مختلفة، كالمخدرات والمشاكل الأخلاقية والتعنيف، وكذلك العمالة التي يتم متابعة قضاياها في جهات أمنية غير جهاز الشرطة".

ويضيف: "نأخذ البلاغ على محمل الجد، ونتابع الحالة ونتخذ الإجراءات اللازمة"، متابعا: "إذا طلبت الزوجة إخفاء كونها مقدمة البلاغ فإننا نمتثل لرغبتها". ويؤكد: "إذا عرف المتهم أن زوجته أبلغت عنه وحاول الانتقام منها، فإن الجهات الرسمية تحميها".

ويشير البطنيجي إلى أن وعي المرأة هو الدافع الأول الذي يشجعها للإبلاغ عن زوجها، وفي المقابل، فإن الخوف على مستقبل الأسرة يدفع الكثير من النساء للتغاضي عن جرائم أزواجهن.