بنفسج

حديث الحنين للفارس الأول

الأحد 14 يونيو

يعود بي الحنين إلى هناك، كلما نظرت إلى صورتي وأبي على مكتبي في المختبر، إلى لحظة احتفظت بها على رفوف ذاكرتي وخبئتها حتى لا تضيع مني في ركب الحياة والأيام. أعود إلى قبل أكثر من عشرين عاما، عندما أهداني والدي رحمه الله، قلمين من ماركة ( باركر) خمريًا اللون؛ أحدهما رصاص والآخر حبرًا. كان ذلك آخر عهدي بأبي، وتلك كانت أخر عهوده معنا.

أذكر أنني ولشدة فرحي بهذين القلمين كنت أضعهما تحت وسادتي قبل النوم، وأحملهما معي إلى المدرسة، كنت لفرط تعلقي أتوقف عن استعمالهما كلما هممت بذلك؛ خوفًا من أن ينفد الحبر الذي في أحدهما، والرصاص الذي في الآخر. حتى قررت في يوم من الأيام أن أكتب خلف العلبة التي تحوي هذين القلمين: " 1996م، هدية من والدي العزيز، سوف أستعملهما عندما أصل أعلى الدرجات!" لم أكن أعي ما هي أعلى الدرجات في ذلك الوقت، ولا ما كنت أريده فعلًا، كنت فقط مراهقة ابنة ثلاثة عشر عامًا.

يشدني الحنين ذاته إلى كلمات أبي الذائبة في حبر القلم ورصاص الآخر عندما قال لي: " هذه هدية لفطوم ست البنات"، وما زلت أحتفظ بهما في صندوق ذكرياتي في بيت أبي.

كان كل ما يعنيني أبي. أن أجعله فخوراً بي، وبإنجازي. كان أقصى حلمي أن أستخدم هديته في كتابة رسالة تخرجي من الجامعة. وكلما هممت في استخدمهما عدت لترددي خوفًا من أن أستنفدهما. وأنا الآن في الدكتوراه، يشدني الحنين ذاته إلى كلمات أبي الذائبة في حبر القلم ورصاص الآخر عندما قال لي: " هذه هدية لفطوم ست البنات"، وما زلت أحتفظ بهما في صندوق ذكرياتي في بيت أبي.

ويجرّني الحنين أيضا إلى خيالات أحبها ابتداء من تخيلي لنظرات أبي في يوم عرسي لو كان موجودًا، مرورا بقسمات وجههه وعصبيته عندما يجن أولادي وترتفع أصواتهم لو كان معهم، وليس انتهاء برؤيتي لوجهه ولحيته الحمراء الجميله الكثة في مدارج جامعتي عندما أكمل رحلة الدكتوراه لو ما زال هنا! لا أدري أهو الفضول أم فعلا هي حبال الحنين المشدودة حول قلبي ونبضه.

بالرغم من أن أعوامي التي عشتها في كنفه لا تتعدى بالمجموع ستًا إلى سبع سنوات -إن صح التقدير- إلا أن في حياتي ككل فتاة رجل أول؛ صوته وصورته وحضوره في روحها يبقى مرجعًا لمقارنة كل ما بعده. ليس لدي تفسير منطقي وعقلاني لما أشعر به، إلا أن ما أؤمن به أن الأب رائحة الياسمين في ليلة الصيف الدافئ. والأب رائحة الفجر الندي في نهار العمل الشاق، والأب رائحة الأمل في نفق التعب، والأب رائحة العزلة في الضوضاء والصخب، والأب رائحة الأمان تشق كتمة الوجع، والأب مسحة الجمال الذكوري الأولى في عين الفتاة. لحية أبي كانت أول لحية ألمسها، وعصبية أبي كانت أول الغضب الخارج من جوف رجل في حياتي.

سجائر أبي كانت الأشهى والأكثر جاذبية من كل إعلانات العلامات التجارية لبيع السجائر. حبيبات النعناع التي كان يجلبها لنا من سفره طبعت في براعم اللسان الكثير من الذكريات اللذيذة. ذراع أبي كان رحبا، وكلما هممت بتذكر اللحظات التي كنت أسترقها لأندس تحت الفراش الدافئ قبل نهوضه من سريره، شعرت بدفء عشرة شموس مجتمعة يسري في أوردتي. وكلما تذكرت مقصه الصغير الذي كان يخبئه دوما ليرتب أي شعرة متمردة من لحيته أضحك كثيرا، وهممت أن أقول لزوجي " تعلم من أبوي!" ولكن الذكرى لن تنسيني الرحيل، ولن تنسيني الفراق الذي ما كنت أفهمه أو أتفهمه لصغر سني عندما رحل رجلي الأول.

لكل ذلك وأكثر، أحب ما تعيشه أميرتي زينب مع أبيها. كل فتاة ترزق حظًا عظيمًا كلما اقتربت من أبيها، وكلما كان قلب أبيها أكبر كان الأمان الذي تعيشه أكبر. لكل ذلك وأكثر، أحب جدا مشاهدة ما تتشاركه ابنتي وأباها، وأحب أكثر ما يفعله زوجي من بناء ذكريات في قلب ابنتي لا يمكنني شخصيًا أن أنافسه فيها مهما حاولت، أحب رؤيتهما عندما يبدآن التخطيط لشيء لا يريدان أن أعلمه!

وأحب أكثر عندما تشعر زينب بالثقة دون تردد في كل مرة ترغب فيها أن تطلب شيئًا أو تطلب استشارة من أبيها، وهو على بعد آلاف الكيلومترات وأنا على بعد القليل من الخطوات منها. وأحب أن أراهما معا في كل لحظة أو محطة أو منعطف ستمر ابنتي به. أحب أن أرى جدار أبيها الذي ستتكئ عليه عندما تميل عليها الأيام. ما أجمل أن تكون كل فتاة بأبيها معجبة! حفظ الله لكل محبة رجلها الأول وزادها فيه عشقًا وتعلقًا وبرًا.