بنفسج

"صفوة الحُفّاظ": حلقات الحفظة لا تكسرها صواريخ الاحتلال

الأربعاء 21 فبراير

سُويت المساجد، بقصفٍ وحشي لم يتوقف منذ أكثر من مئة يوم ويزيد، بالأرض. كان هدف الاحتلال الإسرائيلي منذ اليوم الأول، القضاء على كل مقومات الأمل والحياة في القطاع النازف، تهجّر الآلاف ونزح الآلاف، واستشهد الآلاف وجرح الآلاف، ومع كل هذا الدمار والشتات والتهجير القسري، أبى كثير من الناجين أن يغادروا مناطقهم، فتجمهروا في المدارس وساحات المستشفيات، ومراكز الإيواء مع قلة الإمكانيات، وغادر آخرون من مكان إلى آخر، ومن نزوح إلى نزوح حتى استقروا أخيرًا في مناطق الجنوب. رغم شحّ الموارد والمواد الغذائية بصمودٍ لا مثيل له، سطّر هؤلاء الغزيون أسمى معانى الأنفة والصمود، فهم ما زالوا مقبلين على الحياة يسيرون نحوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

شعبٌ جبار يحب الحياة ولا يهاب الموت، يسارع إلى كسب رضوان الله ويربط قلبه رغم المصاب الجلل بكثرة الذكر والاستغفار، وبتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، حلقات واسعة من الحفاظ للقرآن الكريم ينتشرون في مراكز الإيواء معظمهم من الأطفال، لا يتوقفون عن الترتيل، يتذاكرون القرآن ويحفظونه عن ظهر قلب، ويرتلونه وفق أحكام التجويد واللفظ الصحيح.

 يكررون الآيات أفرادًا وجماعات، بفصاحةٍ وقوة إيمان منقطعا النظير، يواجه أطفال قطاعنا الحبيب صعوبة الحياة، وكدر العيش، تحت القصف العشوائي، وسياسة التجويع والتركيع، التي تمارسها عصابات الصهيونية بحقهم، أطفال ومعلمون لم يركنوا إلى الدنيا، يتدارسون القرآن بحلقات، ويكررونه بأصوات شجية، رغم الجوع والبرد الشديدين، ورغم حالة الخذلان التي يشعر بها سكان القطاع نتيجة تخلي أمة المليار عنهم.

"أنا وهؤلاء الأطفال نريد أن نوصل رسالة للجميع،  أنه بالرغم من تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمساجد إلا أن رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - علمّنا أن أي مكان في أرضنا هو طاهر وعبارة عن مسجد، حيث قال: جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا.

لم يتوقفوا رغم غياب مساجدهم وتسويتها بالأرض عن الصلاة في جماعة، ولا عن حلقات حفظ القرآن، فقبل اندلاع الحرب بأسابيع قليلة كُرم 500 حافظ للقرآن سمعوه كاملًا عن ظهر قلب بجلسة واحدة، لم تغير الحرب المعادلة، ولم تغير صعوبة الحياة وكدرها المعادلة، فما زال هؤلاء العمالقة يتدارسون القرآن الكريم ويرتلون كلام الله ويقبلون نحوه ونحو نيل مرضاة الله مقبلين غير مدبرين.

"صفوة الحفظة": يتحدى صواريخ الاحتلال 

حلقات تحفيظ القرآن في مخيمات النزوح في غزة.jpg
صورة لمجموعة من الفتيات يتدارسن ويحفظن القرآن ضمن مشروع "صفوة الحفظة" داخل أحد مخيمات النزوح في غزة

قبل العدوان الغاشم على قطاعنا الحبيب، وتحديدًا العام الماضي، انطلق مشروع «صفوة الحفاظ»، وهو المشروع القرآني الأول على مستوى فلسطين ودول المنطقة؛ إذ شارك في هذا المشروع ما يقارب من 1471 حافظًا وحافظة لكتاب الله.

وكان ما يقارب 300 مركز لتحفيظ القرآن الكريم تديرها الإدارة العامة للتحفيظ التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة.يذكر أنه هناك ما يقارب من 50 ألف حافظ وحافظة للقرآن الكريم في قطاع غزة، وهذه الإحصائية كانت في عام 2023.

مع بداية العام الحالي 2024،، ما زالت الحرب مستمرة، وما زال كذلك الغزيون يحملون ذات المشاعر وذات اللهفة لحفظ كتاب الله؛ ففي مراكز الإيواء وبالرغم من الحرب الدائرة إلا أنها احتفت وكرمت قبل عدة أيام حفاظ لأجزاء من القرآن الكريم في رفح، كما كُرم النازحون في النصيرات وسط القطاع وتدارسوا القرآن الكريم أيضًا في مراكز الإيواء.

ففي كل مركز إيواء خصص متطوعون فلسطينيون خيمة أو غرفة لتحفيظ وتعليم القرآن الكريم، باتت هذه الخيم تشهد إقبالًا كبيرًا من جميع الأعمار لحفظ كتاب الله أو أجزاء منه، وخاصة الأطفال والنساء، وفق مراسلين صحفايين. فقد وجدت كثير من النساء وقت فراغ طويل، فقررن أن يملأن وقتهن بما ينفعهن في الدنيا والآخرة، وُتعد هذه الحلقات بديلًا نافعًا لأولادهن بسبب عدم وجود مدارس ليتعلم فيها الأطفال.

في إحدى المدارس، وهي "مدرسة القدس" التي تؤوي آلاف النازحين، تجمع المعلمة انتصار العرابيد عشرات الأطفال يوميًا في حلقات لتحفيظ القرآن وتوضيح أحكام تلاوته، في محاولة لتعويض هؤلاء الأطفال عن توقف التعليم منذ بداية الحرب.

تقول هذه المعلمة لإحدى المراسلين الصحافيين: "أنا وهؤلاء الأطفال نريد أن نوصل رسالة للجميع، وتقصد لكل العالم، أنه بالرغم من تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمساجد إلا أن رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن أي مكان في أرضنا هو طاهر وعبارة عن مسجد، حيث قال: جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا. فأي مكان على هذه الأرض طاهر وصالح لتدارس القرآن حتى ولو لم يكن مسجدًا، وسنواصل على هذه الأرض، وفي أي ركن وزاوية تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه". وتتابع: "سوف نكمل حتى لو قُصفت مدارسنا، وقصفت مساجدنا، وقصفت بيوتنا، أي دار يمكن أن نعود لنحفظ فيها القرآن. لن يوقفنا شيء عن تعليم القرآن أو تعليم حرف لولد من أولادنا".

هذه هي النفسية الغزية، وهذه هي الروح المعنوية لهذا الشعب الجبار، شعب لا يقبل الاستسلام، يحيا بأقل الإمكانيات، ويقبل نحو الله في الرخاء والشدة. يلجأ للقرآن الكريم ليشد عضد قلبه ويجابه صعوبة الحياة ومرارتها، شعبٌ كهذا بربكم كيف له أن يهزم؟